د. أسماء صالح

قد يتبادر إلى ذهن القارئ أني سأبث شكوى، أو أنفث زفرات شجب واستنكار على ذلك المسمى، وفي الحقيقة أن منبع هذا الاختيار هو أن أحيي الذكريات الطيبة لدى الجيل المخضرم، ذلك الجيل الذي عاش فترة من الزمن خارج المنزل يصول ويجول ويعمل دون أن يتخوف أهله عليه سواء من الدخلاء على حارته أو من أقرانه.

ذاك الجيل الطيب ما كان يعرف أهله إلا لماما، يخرج المسؤول عنه عن داره لأعماله الخاصة فيرمي ما معه ويلحق به حيث يريد ربه دون أن يعبس أو يتلوى أو يشاكس..

جيل لا يضمر شرا، ولا يحمل حقدا، ولا ينوي سما، ولا يسفر عن سوء، والأدهى والأمر إن قلت لكم إن ذلك الجيل اختلط حابله بنابله، بناته مع أولاده في ذلك الزقاق الضيق، يلعبون ببراءة الأطفال، ويستند عليهم كالرجال.

فحين تأتي تلك الصبية إلى المنزل بعد جهد المدارس، تضع حقيبة مدرستها إلى حين الصباح الجميل دون أن تفتح كتابا واحدا، فبالكاد تجد وقتا لذلك، فتأكل لقمتها، وتقم بيت أهلها، ثم تخرج إلى حيث الأنس والسعادة، إلى عالمها المميز عالم الشوارع، تلعب مع هذه، وتركض مع ذاك، وتدخل إلى بيت الجيران تداعب عجوزهم، وترمي بالحجر بقرتهم، ثم تكمل رحلة التمارين بالخطة والحبلة والأهازيج، وتدخل إلى بيت عزوتها تكمل تنظيف الدار، وفرش المنام..

يا لذلك الزمن العتيق من سرور، ويا لوقته من حبور!!!

ولو نتخيل -مجرد تخيل فقط- خروج أولادنا في هذا الزمن إلى عتبة باب البيت لتوقدت غيرتنا، ولوصمنا قائله بالمذنب الظالم، وهو حقا ما يمكن أن يتوقع....

فهذا الزمن منفتح غير منغلق، ونظرة الصبي تختلف عن نظرة صبي الطيبين، حتى ألعابهم صامتة ومخالفة لألعاب البريئين، فلا تعرف ما يضمرون، ولا تستطيع أن تكشف ما يفعلون..

ويكفي أهل هذا المعاصر أنه يجادل أهله، ويضيق عليهم في مزاحمته لهم دون نفع يرتجى منه، أو هدوء يلفه على أهل بيته، ولو فرضا خرج عن داره للحقته العائلة كلها خوفا عليه من أي مجرم يداهمه بفكره وعقله..

وهذه المفارقات العجيبة نتاج تربية غير والدية، والتأثر ببيئة غير بيئتنا التي نشأنا عليه، وأهم تلك المفارقات وسائل التكنولوجيا وما تختزله من مفاجآت عجيبة تتوالد يوما بعد يوم، فطوبى لمن استعملها بالتطوير والازدهار والتسيير نحو عجلة التنمية.

@09Nfl