د. محمد حامد الغامدي

@DrAlghamdiMH

* أرجو إعادة التفكير في التحلية، أقصد أعذبة مياه البحر المالحة. جعلناها خيارًا إستراتيجيًّا، تحت مظلة: (المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة). بالمقابل أدعو أن نجعل المطر خيارنا الإستراتيجي، تحت مظلة جديدة باسم: (المؤسسة العامة لاستثمار المطر). مهمتها استثمار مياه الأمطار وإدارتها، لتحقيق الأمن المائي، والأمن الغذائي، والأمن البيئي. أن تساهم في جعل بيئتنا المطيرة مهيّأة لنزول المزيد من الأمطار، بنشر الغابات الكثيفة، وبمحاربة عوامل تصحّرها. والأهم الحفاظ على تربتها النادرة والثمينة من الجرف والتجريف، وذلك ببناء المدرجات، الوسيلة الأهم لتغذية المياه الجوفية.

غايتي تغذية واستدامة المياه الجوفية.. أرسم الخطوط العريضة وفلسفتها. أترك للتخصصات الفنية ذات العلاقة تحقيقها، وفقًا لرؤية أتحدث عنها منذ عام (1993م). أقول هذا بفخر المنتصر على التحديات المثبطة خلال هذه السنين. الإيمان برسالتي وأهميتها، وإصراري على خلق الوعي البيئي بأهمية الأمطار، لم يتوقف. وصلت لقناعة مطلقة بأن الأمطار خيارنا الإستراتيجي الطبيعي.

في ظل قول العرب: فاقد الشيء لا يعطيه، لا منقصة أن أقول: كنتُ أتمنى أن يكون شخصي أول مسؤول عن هذا الجهاز. الهدف تأسيس شيء ينفع الأمة السعودية ومستقبلها المائي، ويؤسّس لفلسفة خارطة طريق لإنقاذ المستقبل من العطش. ليس هذا فقط، ولكن لنشرها كرسالة، وتأصيلها كنموذج منفعة سعودية، تعمّ جميع أنحاء العالم. لنتذكر أن المطر تحلية مجانية لا تنضب.

ظل المطر مصدر المياه العذبة الطبيعية الوحيد طوال قرون مضت، حتى جاءت الحضارة الغربية بصناعة أعذبة مياه البحر المالحة. فهل هي الخطوة الأولى للسيطرة على مياه العالم العذبة؟ هل يستطيع الإنسان الاستغناء عن مياه الأمطار؟ أحمد الله أن جعل يد الإنسان مغلولة عن تحقيق تلك النزعة العدوانية. نزع الله قدرات التدخّل في أمر حجب مياه الأمطار، رحمة وخيرًا للبشرية، وللبيئة، والحياة بكل مكوّناتها. بالمقابل يستطيع الإنسان الأناني تلويثه وإفساده والعمل على نضوب مكامنه.

التفاعل مع المطر يتقلص مع الحضارة الصناعية الغربية المعاصرة. لم يعُد المطر يحتل المكانة الإستراتيجية. انحباسه لم يعُد يشكّل القلق الحميد المعروف. لم تعُد مصالح الفرد مرتبطة بالبيئة بشكل مباشر. خير مثال على هذا الوضع ما عشناه ونعيشه نحن الجيل المخضرم الذي عاش مرحلتي ما قبل وبعد الطفرة.

عندما أنظر للوراء أجد الناس في القرى والأرياف كانوا ينتظرون نزول المطر بلهفة، وشوق. يعملون لتعظيم نزوله. يتفاعلون مع مواسمه. يصلّون الله من أجل نزوله. يتبادلون التهاني والتبريكات بهطوله. كانوا يرونه نعمة تطال كل فرد منهم بالمنفعة العظيمة. كل فرد يرى المطر يخصّه وحده. وحتى يحصل على الأمطار الغزيرة، كان يعظم حماية ورعاية البيئة وتنميتها فيما يخصه من هذه البيئة. يحدث ذلك أيضًا على المستوى الجمعي بنظام الحمى البيئي.

بسبب منفعة المطر العظيمة لحياتهم ونشاطها، كانوا يعظّمون شأنه وأهميته بالأفعال. أسّسوا مهارات تعظيم الاستفادة من مياه الأمطار بأنظمة وإدارة رشيدة. وضعوا هياكل بيئية تنظم نفعها. رسموا قوانين، وابتكروا وسائل، وأدوات، ونظمًا، وتطبيقات للاستفادة القصوى من كل قطرة مطر. صنّفوه وجعلوه أنواعًا وفقًا لنوع وكثافة هطوله. نعم، شرّعوا لمياه الأمطار منهج حياة بقوانين وبأنظمة وبأماكن في البيئة. نشروا منفعته على مدار العام، لهم وللآخرين الأكثر بُعدًا عن مناطق نزوله.

كانوا يعتبرون أنفسهم موظفين لدى البيئة خدمة وتنمية، ورعاية، وحماية لتعزيز نزول المطر. كان عندهم أشبه بمكافأة وراتب أشبه بما نعرف في حاضرنا. عشت هذا التفاعل في مرحلة من حياتي الشابة. مع دراستي العلمية تكشفت لشخصي حقائق ومنفعة ما كانوا يمارسون. أيقنت أن ممارساتهم المهارية التراثية المائية هي (علم) بشأن عظيم، يجهله الكثيرون، إن لم يتجاهلوه عنوة. ويستمر الحديث بعنوان آخر.