د. محمد حامد الغامدي

@DrAlghamdiMH

خط سير الحياة سلاسل مترابطة من ساحات أعمال نمارسها. ننجزها بطرق مختلفة ومتعددة. أشبه برقصات مشرقة. نقدمها ونعيشها على امتداد سنين العمر كله. لهذا العمر بداية ونهاية. له نقطة تحوُّل هي سن التقاعد. تم تحديدها بدقة عند (60) عامًا. نقطة انقلاب ليست لها قراءة. ما تحمله الحياة للمتقاعد قبل هذه النقطة يختلف عما تحمله الحياة بعدها. لم أدرك هذا مبكرًا للأسف.. ماذا خسرنا من غياب ذلك الإدراك؟

أعمالنا قبل التقاعد تمثل رقصات حياة جميلة في ساحاتها وميادينها المختلفة والمتنوعة. لكن أعمالنا بعد التقاعد تختلف في أهدافها. حقيقتها رقصات توديع تحركنا نحو موت ننتظره. هذا ما يجري في مجمل الحالتين، ما قبل وما بعد التقاعد. لها استثناءات بسبب الموت المبكر لبعض الأفراد.

أفضل استثمار يكون في البشر. هكذا نقول في مرحلة ما قبل التقاعد. تهيئة وإعداد ثم استثمار. يتوقف هذا فجأة مع بلوغ الفرد الستين عامًا. ماذا عن حياة التقاعد؟ مرحلة لا تحظى بأي اهتمام. نصبح بقايا بدون شعارات محفزة. فاقدين الوظيفة. يتم تعطيل استثمار المتقاعد عنوة. يصبح خارج تغطية الخدمة. ماذا يعني هذا؟ يعني أن وظيفة هذا الترس في مكينة الحياة يجب استبدالها. حتى وإن كان صالحًا لأداء دوره. هذا يعني أن مكينة الحياة قبل الستين عامًا ليست معنية بحياة مرحلة التقاعد.

هل نظام التقاعد هذا منزوع البصيرة والحكمة؟ هل هو نظام أعمى تم تصميمه ليكون محطة لتوديع المغادرين في مسيرة خروج بدون عودة؟ مَن يودع مَن؟ أسئلة فلسفية توحي وتقول. طرحها مشروعًا من أي متقاعد. القصد توضيح أن كل فرد هو جزء من مصالح الآخرين في فترة ما قبل الستين عامًا من العمر. الحقائق لن تغيّر من الأمر شيئًا عند المتقاعد.

هناك حقائق لا يتم اكتشافها إلا في وقت تجاوز نقطة التأثير والتغيير. كنتيجة وجدت نفسي أمام وضع يوحي بأن وظيفتي بعد التقاعد لا تخرج عن دائرة انتظار وصول النهاية. لا أدري هل تأتي إلينا أم نحن مَن يذهب إليها؟ وضع لا يبدو مؤلمًا. تمت برمجتنا كبشر لقبول مشاهده. بل نجد أنفسنا نحتفل بالتقاعد. البعض يعتبره فرصة. يمنّي نفسه بتحقيق ما لم يتحقق. خدعة كبيرة لنقل أصحابها إلى مزيد من الصراعات.

خلق الله الإنسان ليعمل حتى الموت. وظيفتنا كبشر أن نعمل وكأننا لن نموت أبدًا. العمل عبادة، وكأننا سنموت غدًا. هذا يحقق التوازن في الحياة. لكن هل يعمل نظام التقاعد خارج هذا المبدأ؟ جعلوا لكل مرحلة متطلبات نظامية. تحمل فلسفة لمنهج حياة مصنوع لا يحقق ذلك التوازن.

إذا كانت رقصات الحياة قبل التقاعد مدروسة منذ الطفولة، وفق رؤية وإستراتيجية وخطط وبرامج، فكان يجب أن تكون أيضًا رقصات حياة ما بعد التقاعد أكثر دراسة وحذرًا، واستعدادًا، وتهيئة، واستثمارًا. يجب عدم تركها خاضعة لمبدأ الحظ والصدفة. أيضًا لا تخضع لشعار العرب المعروف: دبِّر حالك. تحقيق التوازن دومًا يحقق العدالة والرضا. وهذا تكريم عالي المقام.

أدعو لأن تكون مرحلة التقاعد حياة تكريم، بكل أشكاله ومتطلباته ودرجاته. أن يكون في جزءٍ من هذا التكريم الاستفادة من خبرات المتقاعد التراكمية. خاصة علماء الجامعات. أصحاب مهارة المنهج العلمي في البحوث والدراسات. هنا يطفو السؤال: ما دور المؤسسة العامة للتقاعد؟ أجد أنها تملك أكبر رصيد من العقول الخبيرة في كل مجال. لماذا توقف دورها عند صرف الرواتب التقاعدية؟ تستطيع أن تكون أكثر شأنًا، وأهمية، وتأثيرًا من أي جهة أخرى. لماذا يغيب دورها في مجال استثمار العقول العلمية، لعلماء الجامعات المتقاعدين في مجال البحوث العلمية؟