د. محمد حامد الغامدي

@DrAlghamdiMH

هل التقاعد تكريم للمتقاعد أم عقاب بقضاء بقية حياته قاعدًا يتفرج على جسد يضمر وتنضب قواه؟ يصل الأمر حد عرضه أمام الناس في المقاهي، والتسكّع في الشوارع، دون قصد؟ كل ما يجري نتيجة حتمية لتقادم العمر حتى يصل أرذله. حالة لا مفر منها. كنتيجة طور الإنسان من أهدافه لحل هذه المشكلة الاجتماعية، سعيًا لخدمة المتقاعدين بعد نفعهم للأجيال.. أوجدوا أنظمة دور الرعاية لإكرامهم.

الحياة أصبحت صعبة أمام كل جيل جديد؛ للوفاء بخدمتهم بمنازلهم.. ليس لأن الأجيال عديمة الرحمة والوفاء. لكن مع جبروت متطلبات الحياة وقسوتها، وطغيان هيمنتها، تقلص الوقت للوفاء باحتياجاتهم. فكان أن جعلوا للمتقاعدين دور عناية فائقة حتى قدوم المنيّة. البعض لا يرغب في سماع صوت الحقيقة.

أدعو لنشر دور الرعاية الفائقة للمتقاعدين. فأصحاب القرار اليوم في مناصبهم، وغدًا قد تكون مساكنهم إحدى دور الرعاية هذه. شرّعوا القوانين والأنظمة قبل الفوت. أن تكون قصرًا زاخرة بالخدمات لكم أنتم قبل غيركم.

أصبحنا الجيل المتقاعد الوحيد عبر تاريخ وجود جذورنا الذي يعيش شبه موت حيًّا؛ بسبب اتساع فجوة المتغيّرات والمقارنات والصدمات. الحياة تفاعل يغيب مع الموت. نخسر تفاعلنا نحن المتقاعدين كلما تقدمنا أكثر نحو المستقبل. ذلكم لكبر حجم الفجوة بيننا وبين الأجيال الجديدة. تقلص الفهم المتبادل بين الأطراف.

اليوم أنظر للوراء فأتعجب من كل شيء. قفزات هائلة تباعد بين الأجيال وخبراتها ونمط حياتها. المعايير تختلف. السلوك يختلف. الوقت المتاح للعيش مع الأجيال تقلص. أصبح كل شيء مختلفًا عمّا ألفناه في مسيرة عمرنا، حتى وصولنا بشرف مرحلة التقاعد.

فجأة كأننا عثرنا على أنفسنا بعد التقاعد. أو لنقل صحونا على واقع أعاد ذكريات ماض عشناه، يختلف عن حاضر يحمل في طياته تحديات، لم تعُد لنا القدرة على مواجهتها. نلتزم الصمت. يغيب شغبنا وشغفنا. إن فعلنا كانت الأحكام الاجتماعية علينا قاسية.

أصبح الزمان لغيرنا متجددًا بمعاييره ومتطلباته. هنا أسجل إعجابي بما تحققه الأجيال الشابة الحاضرة. تعيش حياة تحدياتها جديدة وكبيرة، وأكثر قسوة، وخطورة من تلك التي كنا نواجهها في صبانا.. هل أصبح جيلنا معضلة كبرى؟ هل أصبح جزءًا من هذه التحديات؟

كنا نرى آباءنا يعملون حتى الموت دون تقاعد. مسيرتهم كد وتعب. حتى أنهم لا يجدون راحتهم إلا بالموت. كنت أسمعهم في صغري يقولون: فلان مات واستراح. اليوم مع نسيج خيوط حياتنا -كآباء- أصبحنا نعيش قاعدين بعد الستين عامًا. راحة وراتب تقاعدي.. هل من أجل هذا خُلقنا؟ المتغيرات الحضارية تتسارع، تتغيّر، وتتبدل لدرجة لم يعُد نسيجنا صالحًا ومناسبًا لها. فكيف لنسيجنا أن يكون صالحًا لأبنائنا؟ كيف نطلب منهم التمسك به؟ أصبح تأثيره سلبيًّا لا يصلح لزمانهم. يقود إلى تخلُّفهم إن تمسَّكوا به. نحن جيل عشنا مرحلة الفاقة والعوز. نحن جيل عشنا مرحلة سيادة النِّعَم بكل أشكالها. نحن جيل أسسنا ثقافة التبذير. اليوم نحن جيل نردد أمام الأبناء والأحفاد: (الله يديمها نعمة).. فهل يدركون أبعادها؟

الدعاء بصدق وإخلاص يحمل جذورًا عميقة لا يعرف أبعاد سِرَّها غيرنا نحن الجيل المخضرم بين ثقافة العوز والحاجة، وثقافة تبذير النِّعَم. نفاجأ بتعجب الأجيال التالية من دعائنا هذا: (الله يديمها نعمة). هناك مَن يقول: (مخرّف). فقط لأنه لم يعِش مرحلة العوز والفاقة التي عشناها نحن جيل المتقاعدين الحالي. أجيال جاءت بعدنا لم تستوعب نسيج حياتنا في ظل نعمة عاشوها ويعيشونها في ظل حياتنا كآباء. هكذا تكون نتائج التغيّرات السريعة والفجائية في أي مجتمع. تكبر الفجوة لتصبح كالثقب الأسود يلتهم كل شيء في طريقه.