أ. د. هاني القحطاني

لقد خلق الله الأرض وما عليها وفق تقويم محكم. ومنذ فجر التاريخ ربط الإنسان إيقاع حياته بحركة الأجرام السماوية، وبتعاقب الفصول، والليل والنهار، وبحركتي الشمس والقمر. وقد انبثق عن ذلك نظام حياة مزدوج الإيقاع، من حر وبرد، من ربيع وخريف، وشتاء وصيف. ها هي الصين في مشرق الأرض (صاحبة نظام الامتحان الذي يذكر المرء بـ «قياس») تستمد فلسفتها وتضبطها على تصور الصينيين لحركة الـ «ينغ واليانغ» وهو نظام ثنائي القطب، وحوله تتمحور الحياة. وفي الهند يدور إيقاع القرية حول نظام فصلي ذي أقطاب مزدوجة. وها هي حضارات الانكا في مغرب الكرة الأرضية تعتمد أنظمة فلكية ثنائية ومزدوجة القطبية. هكذا هو حال معظم شعوب وثقافات العالم. لقد كان تعاقب الفصول المزدوجة هو الإيقاع الذي ينظم حياتها. ويزخر القرآن الكريم بكثير من الآيات التي تؤكد ازدواجية الحركة واتخاذها مقياسا لضبط حياة الناس، كما ورد في تعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، ورحلتي الشتاء والصيف. وفي فلسفة الأرقام، فإن الأرقام الزوجية أرقام ساكنة مريحة توجد إحساسا بالتوازن والسكينة على نقيض الأعداد الفردية غير المنتظمة المتحركة باستمرار، التي لا يمكن القياس عليها. هذا هو نظام الفصول المزدوجة الثنائية. إنه نظام تقويم كوني ينظم حركة الناس ومعاشهم وقد أثبت فعاليته في كل زمان ومكان.

الحديث هنا ليس عن التقويم الزمني لكنه عن التعليم في ضوء التحول نحو تقويم ثلاثي الفصول.

وإذا كانت المجتمعات قديما تتمحور حول الزراعة والحصاد، فإن الحياة المعاصرة تتمحور حول التعليم. حول بداية العام الدراسي ونهايته، والإجازات الدراسية تتمحور حياة الأسرة السعودية. حولها تخطط الأسر لمعاشها وحلها وترحالها. لقد أصبح ذلك ركيزة أساسية في إيقاع الحياة الاجتماعية والوظيفية والاقتصادية للمجتمع السعودي منذ أن عرف. لقد أصبح التعليم تقويما سنويا لإيقاع الحياة الاجتماعية. هكذا سارت الأمور بسلاسة لعقود. لقد أثبت نظام الفصلين نجاحه، ولكل مؤسسة تعليمية لدينا في طول البلاد وعرضها، من جامعات وكليات، ومؤسسات تدريب وتعليم مهني، ومدارس باختلاف مراحلها، تاريخ مشرف في هذا المجال. لقد راكمت مؤسساتنا التعليمية خبرات جمة في مجال التعليم، وكل منسوبيه يفخرون بانتمائهم لهذا القطاع الحيوي الذي قاد عملية التنمية في المملكة، والخوف أن يذهب ذلك هباء في ضوء الروزنامة الجديدة.

إن التحول من نظام مزدوج من فصلين دراسيين إلى نظام مفرد من ثلاثة فصول سينتج عنه حتما إخلال بمحتوى العلم بشقيه النظري والعملي وبآليات تنفيذهما. إن مجرد إلقاء نظرة عن بعد إلى حال الأكاديميين في الجامعات اليوم، على مختلف الأصعدة، كفيل بجلاء الصورة كاملة. فبدلا من أن ينصرف الجهاز الأكاديمي إلى غاياته في أداء مهامه من تنشئة الناشئة، وغرس بذور المعرفة لدى الطلاب، أصبح شغله الشاغل هو إعادة هيكلة المادة التعليمية للقسمة على ثلاثة في اجتماعات، ما أن تنتهي، إلا لتبدأ من جديد. تلك مهمة تبدو متعذرة. فالعدد الزوجي لا يقبل القسمة على العدد الفردي. هذا التحول يعني إعادة هيكلة مناهج استمرت لعقود، نال الكثير منها بجهد القائمين عليها اعتمادات مهنية وأكاديمية دولية. كل ذلك سيذهب أدراج الرياح. في التفاصيل ليس المرء بحاجة إلى التذكير بأن الإسراع في توصيل المادة العلمية واختزالها، وتقطيع أوصالها، إربا إربا، كما، وزمنا يقلص من محتواها، ويفقدها ترابطها العلمي الذي بنيت عليه، ناهيك عن إمكانية استيعابها في فترات زمنية وجيزة.

لا أحد ينكر وجود الحاجة لتطوير بعض أوجه التعليم لدينا، ولا أحد يتوق للتطوير الأكاديمي أكثر من الأكاديميين أنفسهم. مشكلة التعليم لدينا لا تكمن في روزنامته (تقويمه الدراسي) ولكن في محتواه، وفي الفلسفة العامة من ورائه، وما هو منتظر من خريجي المدارس والجامعات، ودور المؤسسة، والأسرة، والفرد في أداء رسالته التعليمية.

إن تقويم التعليم لا يتم بتغيير موعده الزمني وروزنامته، بل بتسوية الصفوف وإقامتها كالبنيان المرصوص، لأداء هذه المهمة الجليلة، تماما كرص الصفوف في محاريب العلم.

Hanih@iau.edu.sa