لمى الغلاييني

تعتبر النرجسية أحد أهم اضطرابات الشخصية، حيث تنحدر كلمة النرجسية من قصة نرجس في الميثولوجيا اليونانية، الذي حكم عليه بالوقوع إلى الأبد في حب صورته المنعكسة على سطح بحيرة، عقابا له على رفض حب إيكو حورية الجبل الشابة، ونظرا لأن نرجس ما كان له سوى التوق إلى انعكاس صورته دون القدرة على امتلاكها فقد انعزل ببساطة وتحول في نهاية المطاف إلى زهرة جميلة، ولهذا أصبحت الكلمة تطلق على الشخصيات الغارقة في الإعجاب بذواتها والانشغال بالحاجة إلى الوصول للصورة المثالية أو التقدير والمنزلة الرفيعة، ويضيق صدرهم من الإصغاء للآخرين أو إظهار الاهتمام بهم أو تفهم احتياجاتهم، ويمكن لهذا الاستغراق في الذات أن يحرمهم من أي صلات حقيقية أو ودية مع الآخرين، بالرغم من أهمية تلك الصلات، التي تمنحنا إحساسا باحتلال مكانة عالية في قلوب من حولنا وتفتح لنا المجال لمعرفة الفارق بين حب النفس وحب الآخر، وتعلمنا كيفية الموازنة بين الاهتمام بالنفس والاهتمام بالآخرين، إلا أن هذه الأمور تغيب لسوء الحظ عن النرجسي، ورغم أنه غالبا ما يخوض رحلة الحياة متسلحا بصوته المرتفع وأنانيته المفرطة الواضحة، إلا أنه يظل تواقا في اللاوعي لملاذ آمن ودافىء، وعلى الرغم من رؤية النرجسي كشخص لا يولي اهتماما لاحتياجات ومشاعر الآخرين، وتركيزه منصب دوما لجذب الاهتمام باستخدام إحساسه الغامر بأحقيته، إلا أن الحقيقة تقول إنه يتطلع لرابطة أكثر عمقا، وحاجة لا يستطيع إدراكها أو استيعابها أو قبولها، فمن المحتمل أن يعتبر فكرة الروابط العاطفية الودية نوعا من الضعف والشفقة ونتيجة لهذا التطلع غير المدرك، الذي يرفضه النرجسي، فإن احتياجاته تسير على غير هدى، ولا يسعه سوى السعي لنيل الاهتمام عن طريق السلوكيات البارزة من جهة والمستفزة من جهة ثانية. وتشير إحدى النظريات إلى أن النرجسي ربما ترعرع في منزل لقنه فكرة التفوق على حساب الآخرين، والتمتع بحقوق وامتيازات استثنائية، وفي الغالب سيكون منزله دون عواقب صارمة لتجاوز الحدود، فأصبح مدللا بصورة مفرطة، حيث جعله هذا التعامل الفضفاض جاهزا لصياغة قوانينه الخاصة في مرحلة البلوغ، مما وضع حجر الأساس لنمو شخص نرجسي مدلل، وهناك نظرية أخرى أكثر شيوعا حول أصل النرجسية تقول إن الطفل نشأ في جو من الحب المشروط، بمعنى أن تلقيه للحب مرتبط بأدائه، وربما ينتظر منه الوالدان أن يكون الأفضل، ويغرسان فيه فكرة مفادها بأنه لو لم يكن مثاليا، فهذا يعني أنه ناقص ولا يستحق الحب، فتعلم من ذلك بأن الحب مشروط ومؤقت، وأن احتياجاته العاطفية مشروطة بسعيه للتفوق، وقد يكون الأبوان سعيا للشعور بالفخر من خلال إنجازاته، مما يجعل الأطفال يشتكون من طلبات آبائهم وتوقعاتهم كوسيلة للحصول على اهتمامهم المحدود وتفادي النقد والتوبيخ، وردا على هذا الحرمان العاطفي والتلاعب النفسي يلجأ الطفل إلى عيش حياته بناء على مبادئ مغلوطة، وعلى الرغم من قول بعض الخبراء النفسيين إن تجليات النرجسية قد تنبع من الصفات الشخصية البيولوجية، يشعر معظمهم بأن هذه التجليات تنشأ جراء مزيج من تجارب الطفل في صغره بالإضافة لطبعه، ولهذا فقد قالها أحد الأخصائيين النفسيين قديما: «نحن نقضي الخمسين سنة من عمرنا في علاج السنوات الخمس الأولى من حياتنا».

@LamaAlghalayini