د. محمد حامد الغامدي

* كانت رحلتي إلى بيشة أشبه بزيارة مكتبة. محتوياتها كتب بيئية. وضعها الله لخلقه للتأمل، والتفكير، وفرض منافع أخرى كثيرة. الذي يستطيع التعايش معها هو القادر على قراءتها وفهمها، وتفعيل دورها، وأهميتها، ووظيفتها. ومَن يجهل قراءتها يتوه بنفسه. ويجور على هذه البيئة طمعًا، وجشعًا، وجور استنزاف واستغلال، وسوء إدارة. البيئة أشبه بالثوب الذي نلبس، يجب أن يظل نظيفًا ويتجدد. هي البيت الذي نسكنه. البعض يدنس هذا البيت وجماله. يجعله خرابة غير قابل للحياة.

* قراءة هذه الكتب البيئية الطبيعية تختلف عن قراءة أي كتاب يحمل رموز الحروف الهجائية. حيث نستطيع بالقراءة فك رموزها وتحويلها إلى معلومات. ونعلم أن الحرف رمز، بتعلم قراءته نحوّله إلى معلومة. لكن في هذه الرحلة كانت الملاحظة سلاحي ومهارتي الوحيدة، لفك رموز ما تحمله هذه البيئة من سهول وجبال وأودية.

* إذا كان هناك ناس لا يستطيعون القراءة والكتابة، فإن هناك أيضًا ناسًا لا يستطيعون تفعيل الملاحظة والتعلم منها. وإذا كان التعليم يعطي مفاتيح قراءة الحروف الهجائية وفك رموزها، فإنه لابد من تعلم القراءة بالملاحظة، خاصة بين العلماء والباحثين والمهتمين، وهي إحدى أدوات البحث العلمي وركائزه المهمة.

* كانت الملاحظة في رحلتي إلى بيشة محورًا أساسيًا، استندت إليها بكل ثقة، تحركها خبرتي العلمية، وشغفي لخدمة قضيتي الماء. الملاحظة مهارة تعلمتها. بها ومعها بدأت الرحلة عبر طريق بدايته ترتفع عن سطح البحر - من قريتي - بمسافة وصلت إلى (2116) مترًا.

* كانت الجبال في بداية الأمر تتزاحم. تحضن مسارب أودية ضيقة وعميقة. كانت متجهة بميول نحو الشرق. ومع تقدمي في الطريق تزداد هذه الأودية اتساعًا، والجبال تزداد انخفاضًا في الارتفاع.

* وجدت نفسي في مواجهة أول الأودية كبرًا ومساحة، عرضًا وطولًا. مساحة مستوية كالصفحة. منظر مهيب يعطي لهذا الوادي - المجهول الاسم لشخصي - شأنًا وأهمية. الطريق خط يعبر على سطحه. شبَّهته بالبحر الهادئ، أمواجه نائمة. سيارتي أشبه بالقارب تنقلني عبره. سبَّحت الله. وكنتُ أتخيَّل حبيبات تربة هذا الوادي تسبّح الله معي أيضًا. هنا تذكرتُ قول شاعر العرب:

(أنا البحر في أحشائه الدر كامن.. فهل سائلوا الغواص عن صدفاتي؟). كنت الغوّاص الوحيد في هذا الوادي. أحمل همَّ الماء، وأتساءل عن غيابه وعن سطحه.

* وقفتُ بجانب الطريق. تلمستُ تربة الوادي. وجدتها نفس تربة أودية تهامة. إنها نفس التربة الطينية النادرة، نقلتها السيول عبر التاريخ من سفوح الجبال إلى هذه الأودية. عملية تجريف لم تتوقف. تعاظمت أثناء العصور المطيرة منذ آلاف السنين. المؤلم أن جرف هذه التربة الثمينة من سفوح هذه الجبال لا يزال مستمرًا وأصبح أكثر خطورة. أثره السيئ يتعاظم سنة بعد أخرى. الجبال تتعرى من تربتها. هنا الخطورة ونذير الشؤم.

* في نقطة على سطح هذا الوادي العظيم المفتوح، وجدت مركزًا أمنيًّا للتفتيش. إنه الخط الفاصل بين حدود مسؤولية منطقة الباحة ومسؤولية منطقة عسير. مركز مهجور، بلوحة تشير إلى جهة (تبالة) يمينًا. مركز لا يحمل لوحة لتوديع المغادر لمنطقة الباحة. وهناك لوحة (عسيريّة) خجولة للترحيب بالقادم نحوها. فتذكرت أبعاد الوجه العبوس حتى مع البيئة.

* واصلت طريقي في خط مستقيم إلى بيشة بناءً على توجيه (المرشد جوجل). كانت السهول تزداد اتساعًا وتتعدد. فأصبحت هي التي تحتضن نتوء الجبال، وكانت الجبال في بداية الطريق هي التي تحتضن الأودية.

* بدأت السهول تحتل معظم مساحة الأرض أمامي. الجبال لم تنقطع. غارت في جوف هذه السهول. أصبحت مقبرة للجبال. الوضع انقلب رأسًا على عقب. كان صراعًا بين الجيولوجيا والجغرافيا. صراع حسمه الماء، فكانت بيشة الموقع الإستراتيجي. ويستمر الحديث بعنوان آخر.

@DrAlghamdiMH