د. محمد حامد الغامدي

n اليوم نحن في زمن العطاء العلمي والتقني. زمن العلم والعلماء. زمن الإمكانات بشتى صورها وأشكالها. مَنْ كان يتخيّل أن أبناء الحفاة العراة الأميين، بجانب سيادة الفقر والمرض وبطشهما، سيتحولون إلى أساتذة جامعات وعلماء في شتى الميادين والتخصصات. كانوا أبناء لآباء لا يقرؤون ولا يكتبون. الأكثر إعجازا أنهم حققوا ذلك في زمن قياسي لم يتحقق لغيرهم عبر التاريخ.

n أليس ذلك الإنجاز وحده كافيا لأقول (وبكل ثقة): نعم.. يمكننا أن نجعل بلدنا خضراء؟ هل تكفي الإرادة وحدها للقضاء على جمود التصحر والجفاف؟ هناك مع الإرادة عوامل أخرى يجب تفعيلها. هل نحرك الشرق والعالم الجاف بكامله، لنصبح نموذجا ومثالا طموحا يحتذى به؟ نعم يمكن.. ولكن.

n في مقال الأربعاء الأسبوع الماضي، ذكرت أنني تلقيت الكثير من الأسئلة، التي تسأل: هل يمكن تحقيق (السعودية الخضراء) في ظل ندرة المياه، التي أتحدث عنها؟ هل يعني طرح هذا السؤال التشكيك في الانتصار على تحديات البيئة ومشاكلها؟

n طرح الأسئلة عمل مشروع في ظل ندرة المياه ومواردها في المملكة، -حفظها الله-. ولكن أعود بكم إلى التأمل والتفكير بشكل بيئي صرف. علينا أن نتذكر دوما بأن وجودنا بالمناطق الجافة يمثل حضارة بيئية نادرة، ذات قيمة ومعيار. علينا رصد نسيجها بكل نواحي الحياة. إنها كنز حقيقي بحاجة لصون، وتوثيق، وإعادة تأهيل، وتطوير، وتنمية. إنها وسائل ومهارات بسيطة، لكنها تحقق أهدافا عظيمة وكبيرة.

n أعود بكم إلى حياة وحضارة الرمق الأخير، التي تعزز ثقتي في الاستنتاجات، التي أقول بها، فأقول: هل تساءلتم كيف استطاع آباؤنا وأجدادنا العيش في الظروف الاستثنائية للبيئة من جفاف وندرة موارد؟ الجواب واضح أمامي. إنها مهارات التعايش مع البيئة، جعلت منهم قامات قاهرة لتحديات البقاء. إنها مهارات نتاج تجربة اليد، مهارات تراكمية سهلة التطبيق، ومتقنة الفهم والممارسة، تتوارثها الأجيال، وتمثل أسلحة البقاء والاستدامة.

n سلسلة الأجوبة ستقود إلى الحل السحري لتحقيق الطموحات عالية الهمة والجودة ومنها السعودية الخضراء. نحن لن نعيد اختراع الأشياء، لكننا مطالبون بإحياء التراث المهاري البيئي، دون الدخول في تحدٍ للبيئة وإمكاناتها أو القسوة عليها. وسبق أن قلت إن الأغبياء وحدهم مَنْ يتحدى البيئة. بالتأكيد لن نكون كذلك. ولا أدعو أن نكون أغبياء.

n أصبح موت الآباء أشبه بمكتبات تحترق. جاءت أجيال لا تملك مهارات البقاء، ولا تعرف تاريخها البيئي العظيم الشأن. كنتيجة أصبحت البيئة نكرة في حياتهم، وجاروا على مواردها، وأصبحت الأجيال بعيدة عن التفاعل مع بيئتها الجافة. وقد يعطي هذا البعد الانطباع باستحالة أن تكون السعودية خضراء.

n إن فهم البيئة والتعايش معها جزء من حضارة البقاء. وقد جعل الآباء كل ما يحيط بالفرد بيئة صالحة للحياة، ليس فقط على مستوى الجغرافيا والمناخ، ولكن أيضا على مستوى الثقافة، والاقتصاد، والحياة الاجتماعية، والسياسية، والعلاقات الإنسانية. اليوم نحن بحاجة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بحاجة لرصد ما يمكن رصده وتسجيله، بحاجة لاستثماره. إنها مهارات تحقق معجزات لا تحققها الميزانيات الضخمة.

n نحن اليوم نملك العلم والخبرات العلمية، ونمثل الحلقة الرّابطة بين التراث المهاري البيئي، وبين حياة العلم الحديثة، علينا استثمار هذه الخبرات وإعطاء التفسيرات العلمية، قبل فقد الحلقة النهائية بين حياتين مختلفتين. الحياة التي نعيشها اليوم تختلف، بكون الإنسان لا يملك مقومات استمرار حياته، على هذه البيئة الجافة بالاعتماد على نفسه فقط.

n التنقيب عن التراث المهاري البيئي مطلب ضروري، يكفينا عناء توفير الميزانيات الضخمة، لمشاريع استدامة الحياة، بشكل سليم وكفء. في هذا الجانب علينا إدراك واستيعاب أن البيئة لها إستراتيجيات مثل البشر، كذلك النبات له إستراتيجيات محورها البقاء. ويستمر المقال بعنوان آخر.

@DrAlghamdiMH