غنية الغافري

أجواء رمضان في العمائر والبنايات ذات الشقق المتلاصقة تشبه إلى حد كبير أجواء «فرجان أول» فالجيران أكثر تقاربا وحميمية من أجواء الأحياء الجديدة ذات الفلل والبيوت الكبيرة والمستقلة والتي تشبه المقابر ! في هدوئها وسكينتها المرهقة ! فجيران الفلل استغنوا بمساحاتهم عمن حولهم ! فحتى حينما يمتطون سياراتهم الفارهة يمتطونها من داخل المنزل ! ويخرجون مسرعين من باب المرآب بعيدا عن أعين الجيران المشفقين على رؤية (زول) كما يقول الأخوة السودانيون أو التلويح بالسلام عليه فضلا عن تكوين علاقات (جيرة) جميلة تضيف لدى البعض نكهة خاصة في حياتهم.

وفي ظل الجائحة ازدادت لدي الرغبة في رؤية أشباههم من البشر تحسبا لأن يأتي حين وتدب «الوحشة» فيما بينهم ويصبح أحدنا كفتى الأدغال ! ينظر للناس على أنهم كائنات غريبة لم يشاهدها من قبل! بل حتى أفراد العائلات أصبحوا غرباء عن بعضهم كأبطال المسلسلات والأفلام! وربما جمادات تتحرك كالهيلوجرام ! أما القيم التربوية في العلاقات الاجتماعية فتكاد تعلن حالة الحداد فالجيل الجديد اكتفى بالعلاقات الافتراضية وأصبح له عالمه الفضائي الخاص.

ويتفنن محبو «الجيرة والجيران» في طرق التعارف وأعجبتني إحدى الأخوات حين انتقلت لحي جديد واستثقلت الصمت والوحدة في البيئة الجديدة حيث الجيران عبر التاريخ هم الأهل لكل غريب عن داره وأهله فبدأت بتوزيع الأطباق الرمضانية وعلى كل طبق رقم هاتفها وخلصت في نهاية الشهر بإنشاء مجموعة واتساب وزيارات دورية والأهم أنها أمنت جوارها! وعرفت من يحدها من جميع الجهات وأشغلت الأطفال بتوزيع واستقبال الأطباق وابتسامة الفرح تعلوهم وهم يرون أقرانهم قد خرجوا من جحورهم ! وفي رمضان الذي يليه وعندما تأخرت في إرسال أطباقها وتأخرت عادتها السنوية هاتفها الجيران للسؤال عن صحتها ! فكان الطبق مؤشر حضور بامتياز ومصداقا لوصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين قال «إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف» وإن كانت الأطباق المرسلة ليست احترافية وليست بمستوى الأسر المنتجة التي سهل على الناس الحصول على إنتاجهم إلا أن طبق الجيران رمزية لشخص اجتماعي يحب الناس ويألفهم.

وتختلف طرق التعرف على الجيران ولا يزال المسجد هو المؤسسة الاجتماعية الأولى وحلقة الوصل بين أبناء الحي الواحد وله المكانة الرحبة في أفئدة المجتمع المسلم وليس مقتصرا على أداء الفروض.

وبالرغم من أن الناس اليوم انكفأوا على أنفسهم ومحيطهم الصغير حتى عن أقاربهم وأرحامهم إلا أن الحاجة للجار ليست مادية في كل الأحوال وكم من القصص التي كان بطلها الجار الطيب، وأذكر حين شعر أحد الجيران بالاختناق فاستعان أبناؤه بأحد الأطباء من جيران الحي لإنقاذه ولم لم يكن هناك معرفة بهذا الجار وتخصصه لما كان مصدر إنقاذ يدان له بالفضل بعد حفظ الله عز وجل وكم من جار يجد الأنس مع جاره أكثر من الأقربين !

وبعد انتهاء هذه الأزمة التي مرت على العالم نحتاج لترميم العلاقات أو السعي لافتتاح جمعيات خيرية تعيد لنا قيمة العلاقات الاجتماعية وأهمية الجيران لننفذ وصية المصطفى الكريم حين قال «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».

وفي الختام تذكرت أمي رحمها الله وقد اعتادت توزيع الأطباق على الجيران فيردون لها طبقا بطبق ! ويحبون الاجتماع في بيتها إلا أن إحدى الجارات (المنغلقات) صمتت كثيرا ثم جاءت لأمي رحمها الله لتخبرها أنها لا تستقبل شيئا من أحد !! وأيا كان رفض بعض الجيران للأطباق إما نفسيا كعدم قبول طعام الآخرين أو عدم رغبة في تكوين علاقات مع الجيران إلا أن مغزى الأطباق ليس ما في الطبق من طعام إنما هو رسالة مبطنة تقول: هل ترغبون وصالنا؟!

يقول المعري في نفاذ رائحة الطعام للجار:

متى نشأت ريح لقدرك فابعثي

لجارتك الدنيا قليلا ولا تملي

فإن يسير الطعم يقضي مذمة

ولا سيما للطفل أو ربة الحمل

@ghannia