رائد البغلي

هبط حسين على هذه البسيطة ويحمل على جناحيه معاناة ممضة جعلت منه سجينا في عالم ضيق وسط عالم فسيح، فقد ولد بتأخر عقلي شديد حرمه أن يعيش سويا.

سلوى شقيقته التي تكبره بعدة أعوام كانت تسهر على رعايته: مأكله، مشربه، ونظافته، فعلاقتها به لم تكن علاقة أخت بشقيقها، بل علاقة أم بوليدها الذي مهما تقدم به العمر لا يبارح الطفولة في عينيها، ولا تكف الذود عنه إزاء أي خطر قد يحدق به.

حسين الذي كان يمكث على هامش الحياة كانت تراه سلوى كل الحياة، تقبضه من تلابيبه لتزرع القبلة تلو القبلة على قسماته، فيصل مفعولها إلى أعماقه، لتطفو بعد ذلك بسمة وتتمدد على وجهه. إنه الشعور الذي لا يميز بين عاقل أو مختل.

كان يقبع فريدا في غرفة لا تتجاوز مساحتها الإجمالية الثلاثة أمتار المربعة، وأحيانا يجوب في فلكها بسرعة مخيفة مصحوبة بصراخ مطرد يشعرك أنه سيخترق الجدار أو سيقتلع الباب من هول المنظر.

لشد ما يوجعك وأنت تراه يغرس أنيابه في كفه التي أبلاها العض وأنهك سلامياتها، فتهطل دما وعيناه تغرورقان بالدموع، فيزمجر ويدخل في نوبة صراخ متهدج.

يبهجك حينما يصفق، ويبكيك كلما يبكي وأنت لا تعلم عن سبب بكائه شيئا سوى أن هناك ألما يعتلج في روحه، وبركانا يوغر صدره.

بعد شد وجذب، نقل إلى دار للرعاية تحتشد بعمال من الجنسية الهندية والبنغلادشية، وكما هي تقاليد أي بيئة عمل حاضنة لجنسيات متعددة، فإنها لا تخلو من أتون حرب مفضية لوشاية طرف بآخر مثلا.

أحد عمال الدار لمحنا ذات مرة، فزارته فكرة البوح بما يجري خلف الجدران حينما يكسوها الظلام، وسرعان ما انزلقت تفاصيلها إلى لسانه وأفشى بتؤدة التعنيف الذي يتعرض له حسين من قبل العامل المكلف برعايته، إذ ينهال عليه بالضرب دون هوادة ويشكمه متى ما سمع صراخه أو أنينه مستغلا عدم قدرته على البوح أو الدفاع عن نفسه. قد يكون ذلك ضربا من السيكوباتية.

كنا نقف بمحاذاة باب موارب يؤدي إلى غرف نزلاء الدار سرعان ما انفتح وبزغ عامل هندي ذو بشرة قاتمة، تكسو وجهه لحية كثة، عيناه الحمراوان جاحظتان وترميان بشرر، ونظراته تبعث على الريبة.

كان يزجي بالكرسي المتحرك الذي يحتضن حسينا نحونا. استوسق المشهد، وأنذر أنه هو.

أودعنا حسينا ثم أجفل لخارج المبنى ونظراتي ترصده. وقف على ناصية وأشعل لفافة تبغ، وفي النهاية أطلق سحابة دخان كثيفة في الفضاء وعاد أدراجه.

بعد الأسمال التي كان لا يطيق معها صبرا فيمزقها من عليه، أقبل حسين متسربلا بثياب بيضاء ناصعة. مهلا.. مهلا، هناك سؤال لم يهدأ كسفينة تتقاذفها الأنواء: هل كان ذلك الجمال الذي يخفي خلفه قبحا؟!

ما إن رأت سلوى حسينا إلا وانكبت عليه وغابت في أحضانه برهة وبكت من شدة الشوق المتلظي في جوفها. كانت تخاطبه وكأنه يعي ما تقول. أرهفت السمع وإذا بعبراتها تتهشم على مسامعي، وبعد ذلك تبوأت مكانا محاذيا له وعقدت ساعديها على صدرها وراحت تكفكف دموعها وتحدق به في ثبات ولهفة وكأنها تروم من ذلك ملء روحها منه قبل أن تلوذ بالرحيل، وبدوره كان يحملق فينا بصمت وكأنه يرانا للمرة الأولى.

مضت السنون وقضى حسين نحبه عندما شارف على الأربعين بسبب عيب خلقي في عضلة القلب تم اكتشافه متأخرا، وخلف اللوعة في قلب سلوى التي ما فتأت تتذكره رغم مضي اثني عشر عاما على رحيله.

في اقتطاف من روايتها (الطنطورية)، تقول رضوى عاشور: «ما المنطق في أن أركض وراء الذاكرة وهي شاردة تسعى إلى الهروب من نفسها، شعثاء، معفرة، مروعة مسكونة بهول ما رأت؟».

وترد سلوى: «إن من الوفاء أن تؤثث الذاكرة بالصور وتفترش الروح بالذكريات، فالحياة رحلة طويلة، وزادها ذكريات صنعناها مع من نحب ودثارها صور جمعتنا بهم».

@raedaalbaghli