د. محمد حامد الغامدي

n الحديث مستمر عن زيارتي لمنطقة الباحة، حيث وظفت وبكفاءة ملاحظاتي في طريقي بين (العقيق والباحة وقريتي). فكان أولها، صدمة تلك اللوحة الإرشادية التي ذكرتها في المقال السابق، والتي تشير لمخرج الطريق إلى بلجرشي وبني كبير، رغم تعثره وعدم اكتمال إنجازه. أن يتحول الإنجاز والجهود والأموال إلى كابوس، فهذا أمر مؤلم. ويتعاظم تأثيره لأمثالي الذين يأخذون ضياع الوقت في حسبانهم. مؤسف أن يتعكر الإنجاز، وتتبعثر الجهود بلوحة إرشادية صغيرة، زهيدة السعر، فقط لأنها لا تقول الحقيقة، ولا تصل بك إلى الهدف الذي تعلنه وتحمله، وبسببه تم غرسها في المكان.

n وأثناء سيري من مطار العقيق إلى قريتي في محافظة بالجرشي، كنت أقرأ ملامح البيئة، لتحديد مدى التغيير الذي طرأ مقارنة بما كنت أعرف. فحرك مروري بجانب سور موقع جامعة الباحة، مشاعري العلمية التي لن تشيخ، وستظل متقدة، رغم قهرها بالتقاعد غير المنطقي للعلماء في الجامعات، بسبب ظل نظام أعمى لا يفرق بين عالم في جامعة وعامل في مستودع. وتساءلت: كيف يتقاعد علماء المملكة؟ ولماذا؟.

n ولأني ابن جامعة وأكاديمي المهنة، ثارت الأسئلة دون حدود وتحفظ، حول هذه الجامعة، التي لم يكتب لشخصي زيارتها. تساءلت ماذا يجري داخل أسوارها؟ ماذا تحمل من رسالة لبيئة منطقة الباحة وأهلها؟ هل هي جسم غريب في هذه المنطقة، أم إنها أصبحت جزءا حيا متفاعلا، كالسحاب الذي يعيش بين أهلها، حيث غيابه يلفت النظر ويثير التساؤلات؟.

n تساءلت: لماذا تم اختيار موقعها في مكان بين جبال سمر خالية من الحياة؟ بيئتها أشبه بساق الغراب، الخالي من الريش، فتظهر وحشته وكآبة منظره. فهل أصبحت هذه الجامعة ذلك الريش المنشود؟ الجامعات مدن علمية بكلياتها، تضاف إلى مدن حية بالبشر، لتزيد من قوتها ومكانتها، لتصبح أشبه بالمكافأة التي يستحقها المكان وأهله. لماذا لم تكن في مدينة العقيق، أو في إحدى مدن منطقة الباحة الأخرى؟.

n طويت صفحة تساؤلاتي عن جامعة الباحة، على أن أعود إليها لاحقا. ثم واصلت قراءتي السريعة لصفحات بيئية متعددة، أطويها مع سير السيارة. كانت قراءة سلبية، كما يفسرها البعض وبشكل دائم. ولأن شخصي أكاديمي تعاظمت الملاحظات، لتتحول إلى أسئلة علمية جوهرية، ذات أبعاد مستقبلية، يحدد أبعادها ومداها عظم المؤشرات، التي تقود إلى الاستنتاجات والحكم، من خلال التنبؤ العلمي بوجودها.

n إن قراءة العلماء للمؤشرات جزء من طبيعة تخصصاتهم، واستنتاجاتها، فهي ليست سلبية، ولكنها قراءة لتشخيص المشاكل، وأيضا ليست تشاؤما، ولكنها سرد لواقع، ينبئ بالمستقبل في ظل استمرارها. فالتشاؤم عاطفة وانطباع لمزاج، بينما التنبؤ إلهام يعتمد على مؤشرات علمية. التشاؤم مرض، والتنبؤ العلمي علاج استباقي قبل أن تقع الفأس في الرأس.

n بالتأكيد هناك قراءة إيجابية لكل شيء. لكن ليس كل بريق مصدره معدن الذهب الدائم البريق. المؤلم لأمثالي أن تتحول قراءة الأشياء التي يراها الناس إيجابيات إلى قراءة سلبية، بمؤشر سلبي يؤكد ملامح وجودها خطورة على المستقبل. وغالبا ما يكون غير مرئي للعامة ولغير المتخصص العلمي.

n بالطبع كان الماء يقود قراءتي واستنتاجاتي. فالماء كما تعلمون قضيتي الكبرى، ومحور اهتمامي وهمِّي، وكنت أبحث عن المؤشرات ذات العلاقة، لأن منطقة الباحة تقع ضمن الشريط المطير في مناطق الجنوب الغربي، والذي يمثل جزءا من منطقة الخزان الإستراتيجي لتغذية المياه الجوفية في المملكة.

n تعاظمت أسئلتي واستنتاجاتها مع تقدمي في الطريق إلى محافظة بلجرشي، ملخصها البيئي يقول: هل نحن نبني أم نهدم؟ نطور أم نخلق المشاكل؟ وجدت أن التنكيل بهذا الشريط المطير الإستراتيجي في منطقة الباحة أخذ مداه، لدرجة يصعب معها إصلاح ما أفسدته التجاوزات البيئية. ويستمر الحديث بعنوان آخر.

@DrAlghamdiMH