لمى الغلاييني

يروي لنا توفيق الحكيم في روايته «نهر الجنون» عن مدينة يجري بها نهر يسبب ماؤه الجنون لمن يشربه، وساد الجنون في المدينة يستشري كلما ازداد شرب الأهالي من النهر، ولم يبق عاقل إلا حاكم المدينة ومعاونه، وكانا يتأملان الأوضاع وحال الشعب في حسرة ودهشة، ومع مرور الوقت اقتنع الحاكم بأن الجنون أصبح هو السائد، ولم يبق أمامه خيار آخر سوى أن يصبح مثلهم، فصرخ غاضبا «من الجنون ألا أختار الجنون»، واضطر في النهاية للشرب من النهر بدافع مجاراة الواقع وليس فعل الصواب، ويمكنني وصف موقفه بـ«الجنون العقلاني»، وهي حكمة الكثير في العالم الجديد، وهذا ما يصفه ميلان كونديرا بدقة فيقول تصور أنك صادفت مجنونا يدعي أنه سمكة، وأننا جميعا أسماك، فهل ستجادله؟ وهل ستتعرى أمامه لتقنعه بأنك لا تملك زعانف؟ أتراك تملك الشجاعة لإخباره برأيك الحقيقي فيه؟ وإذا فعلت فهل أنت مستعد للخوض في نقاش بيزنطي مع مجنون؟، والأمر نفسه ينطبق على الكثير من الأوضاع في واقعنا، فنحن مضطرون للكذب لكي لا نتعامل بجديه مع المجانين، ولكي لا نصاب بالجنون من وحدتنا، فالأشقى من البقاء أعمى هو أن تكون المبصر الوحيد، فهم لا يدركون افتقارهم لحاسة البصر، بل يتندرون على غرابة أخبارك، فحين تخبرهم بأنك ترى صورا جميلة ومناظر لا محدودة ضحكوا منك ووصفوك بالخلل والكذب، فهم لا يدركون أنهم يفتقرون للبصر، بل بالعكس أنت من تفتقر للعمى، فترهق من كثرة محاولاتك لإقناعهم، فتلجأ للمجاراة، بالانسحاب للداخل وتبني الجنون العقلاني، وتغيب داخل عالمك الخاص ولكنك حاضر في مجالهم الفيزيائي، لكنك ستكتشف أنك لست الوحيد الذي تعاني من هذا الشعور، فهناك العديد أشباهك، وهم يستحقون جائزة التفرد بإصرارهم على التمسك بقراراتهم وعدم الانصياع وراء القوالب المتداولة، وهو قرار ذاتي مفعم بالنضوج، وصراع بين ما يقال لك عن نفسك وما تعرفه أنت عنها، وحتى تنعم بالهدوء؛ عليك أن تتقن التجاهل باحتراف.