د. فالح العجمي

منذ انطلاقة الثورة الصناعية في أوربا، كان الأوربيون يشعرون بتفوقهم على بقية الأعراق، وسيطرتهم على العلم والفكر والإنتاج، خاصة بعد أن تمكنوا من ابتكار وسائل التقنية التي ميزتهم بالقوة عن كثير من الأمم، ودعمت جيوشهم وسفنهم بمعدات مكنتهم من السيطرة العسكرية بعد الهيمنة الاقتصادية. وانطلقت جحافل جيوشهم بدءاً من القرن الخامس عشر الميلادي تحتل بلدان العالم شرقاً وغرباً وجنوباً، وتستعمر سكانها، وتنهب خيراتها وتنشر فكرها ولغاتها في تلك المناطق المستعمرة. ومنذ أن احتل الأوربيون القارتين الأمريكيتين، واضطهدوا سكانها الأصليين، وهم يتمددون في كثير من المناطق والجزر القاصية في تنافس شديد بين تلك القوى الأوربية الغازية المستعمرة، التي تبحث عن المزيد من خيرات تلك البلدان ومواردها.

وقد أحدثت تلك الأوضاع نزاعات جزئية تتحول أحياناً إلى صدامات كبرى بين تلك القوى المتصارعة على الهيمنة، حيث كانت آخر تلك النزاعات المدمرة ما حدث في الحربين العالميتين خلال النصف الأول من القرن الماضي. لكنها في النهاية مثلت كتلة واحدة متعددة المصالح، غير أنها متفقة في المبادئ، وهي التي نطلق عليها في مقالنا هذا «الخطاب الغربي»، وتمتد من أوروبا إلى أمريكا الشمالية مروراً بأستراليا وبعض القوى المتحالفة معها ضمن حلف الناتو، أو بعض الكيانات الاقتصادية المؤثرة.

وقد اتسم الخطاب العام لهذه الكتلة التي يطلق عليها مجازاً «العالم الغربي»، وإن كانت بعض بؤرها في الشمال أو الجنوب، بنوع من التعالي على الثقافات الأخرى، وبلغة فيها إملاء القوة على الشعوب التي لا تدور في فلكها، أو تخضع لمبادئها. وقد أصبحت كل واحدة من تلك القوى تسعى إلى قيد كثير من البلدان والشعوب تحت هيمنتها، وتجعلها تتحدث لغتها، لتكون مدخلاً لها بزيادة نفوذها وتوسيع رقعة سيطرتها على القرار العالمي. واستمر الوضع على هذه الحال، إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن الماضي، حيث انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة الكتلة الغربية، في مواجهة الاتحاد السوفييتي متزعماً الكتلة الشرقية (الاشتراكية العالمية). وخلال تلك الحرب الباردة التي استمرت أربعة عقود بين القوتين العظميين، كما كان يُطلق عليهما، حدث ترسيخ لوحدة الخطاب الغربي (بما يدعي احتواءه لقيم الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي جرى إقرارها في مبادئ منظمات الأمم المتحدة، وأصبحت تشريعاً سياسياً عالمياً). وفي العقد الأخير من القرن الماضي، مع تفكك منظومة الكتلة الشرقية وسقوط الاتحاد السوفييتي، أصبحت القوة الأمريكية (قائدة للغرب) هي القوة الوحيدة في العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً؛ وهو الأمر الذي أعاد الشعور بالغرور إلى خطاب الغرب، وخاصة في نسخته الأمريكية. فقد أصبح مطلوباً أن تنتشر الرؤية الأمريكية إلى العالم بأجمعه، وأن تخضع جميع البلدان التي لا تريد الحصار إلى منظمة التجارة العالمية، بما في ذلك التيار الذي أصبح قوي النشاط في المؤسسات الأمريكية نحو «عولمة العالم» في كل من السياسة والاقتصاد والتجارة.

ورغم وجود بعض الإخفاقات في تحويل العالم بثقافاته المختلفة ومبادئه وفكره وأديانه المتعددة إلى نموذج واحد يتوافق مع الرؤية الغربية، إلا أن مراحل متقدمة قد قُطعت في هذا الاتجاه خلال العقدين اللذين تليا التفرد الأمريكي بقيادة العالم. لكن نكسة كبيرة لهذا الخطاب قد حدثت بعد ذلك؛ نتبينها في المقال التالي الذي نحدد فيه عناصر انحدار ذلك التعالي.

falehajmi@