لمى الغلاييني

حين نتأمل الطريقة، التي نقرر بها بدقة مقدار ما نعتبره الكفاية لأي شيء، فسنكتشف أن تعريفنا للحد المناسب للشيء لا يكون مستقلًا بذاته، بل نصنع معاييره مقارنة بحال المحيطين بنا، الذين نعتقد أن أحوالهم تشابهنا، فمعظمنا لا يقدر ما بين أيديه لقيمته الخاصة به، أو مقارنة بتطور الحاضر وصعوبة الماضي، أو بما لاقاه أجداده من صعوبة وكفاح، ولا يراجع ما كان عليه وضعه سابقا في المرحلة الماضية ليفرح بما لديه اليوم من رخاء، ولكنه لا يعتبر نفسه محظوظا إلا حين يملك مثل أو أكثر من الأشخاص، الذين نشأ بينهم أو يعمل معهم، أو يصادقهم، أو يتواجد معهم في المجال العام، فإذا كنا مضطرين للعيش في بيت صغير بسيط، ونرى رغم ذلك أن أشباهنا وأندادنا يعيشون جميعا كما نعيش، فسيبدو حالنا عندئذ عاديا، وربما سيكون محبطا نوعا ما، ولكنه لا يمثل تربة خصبة لنمو الحسد، ويهمني أن أوضح أن كلمة الحسد هنا في المقالة وصف شعوري أقرب للمقارنة وخالٍ من العدائية، وفي المقابل لو كنا نسكن منزلًا جميلًا ولدينا وظيفة جيدة، وتواجدنا يوما في مناسبة مع زملائنا القدامى، واكتشفنا أنه يسكن في منزل أكبر اشتراه من راتبه الأفضل ومنصبه الأعلى، فأغلب الظن أن بعضنا سيعود للبيت حاملا في قلبه الكثير من الحسرة، وذلك بسبب الشعور بأنه كان من الممكن في ظل ظروف أخرى أن نكون شيئا غير ما نحن عليه، وسبب ذلك الشعور هو التعرض لمنجزات حققها أفراد نعتبرهم مساوين لنا، مما يتولد عنه القلق والغيظ، فمثلا إذا كنا قصار القامة ولكننا نعيش بين أشخاص لهم طول قامتنا نفسه، فلن نشغل بالنا بمستوى الطول والقصر كثيرا، ولكن إذا حدث ونما آخرون من نفس مجموعتنا بحيث صاروا أطول منا قليلا، فسنكون عرضة للاستياء والحسد، على الرغم من أن حجمنا ثابت ولم يتأثر بنقص، ولهذا فالسمة الأشد وضوحا في ميكانيزم الحسد هي أننا لا نحسد جميع الناس، فهناك العديد من أثرياء العالم الغارقين في البذخ والنعيم والخارجين تمامًا من دائرة انشغالنا، في حين تتسبب مزايا متواضعة لآخرين حولنا في اشتعال الحسد أو الحسرة بداخلنا، لأننا نتسامح مع كل نجاح يحققه الآخرون، إلا نجاحات أندادنا فهي لا تطاق، فالكاتب المشهور جدا لن يجد نفسه موضع غيرة الكتَّاب المبتدئين، بقدر ما سيلقى الغيرة في صدور مؤلفين أقرب لمكانته، لأن التباين الكبير يقطع الصلات، ويقلل آثار المقارنة، وهذا ما تفسره مقولة ديفيد هيوم: إن «الحسد وليد التقارب، والتباين يقلل الحسد»، وتفسير ما سبق أنه كلما زاد عدد الأشخاص، الذين نعتبرهم أندادًا لنا ونقارن أنفسنا بهم، ازداد عدد مَنْ نراقبهم ونحسد نجاحاتهم.