د. إبراهيم العثيمين

بداية أهنئكم بالعيد المبارك جعله الله عيد خير ومسرة على الجميع وأعاده الله علينا أعواما عديدة. كان حج هذه السنة والخدمات التي تمت نقلة نوعيــة فــي خدمــة ضيــوف الرحمــن وهي تلخيص ما قاله الأمير خالد الفيصل «إذا تحققت الإرادة والإدارة فلا بد أن نصل إلى الصدارة». فالمملكة منذ تأسيسها على يد مؤسسها الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - وهي تبذل الغالي والنفيس لخدمة الحجاج والترحيب بهم، والعمل على توفير سبل الراحة لهم وسار عليها أبناؤه الملوك من بعده. فالإرادة السياسية برأيي تلخصت في التأكيد قيادة وشعبا أن الله كرمنا وشرفنا بخدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما، وبالتالي تسعى الحكومة سنويا باستنفار كافة القطاعات الحكومية والأهلية والجهات التطوعية المشاركة في الحج لتوفير كل الإمكانيات لضيوف الرحمن حتى يستطيعوا أداء فريضة الحج بكل يسر وسهولة. وقد لخص هذه الأمر الملك سلمان - حفظه الله - في إحدى كلماته عندما قال «فتحت بلادنا قلبها لضيوف الرحمن، وأشرعت أبوابها لكل القادمين إليها، وسخرت كافة الإمكانات والجهود في سبيل راحتهم وأدائهم لشعائرهم ومناسكهم بيسر وسهولة». الأمر الثاني النظر إلى الحج كعبادة وفريضة إلهية، وبالتالي تمنع الحكومة أي استغلال لموسم الحج في ترويج توجهات سياسية أو أيديولوجيات حزبية، أو أن يكون مكانا للتنفيس والتصعيد والتعبئة السياسية. فالسعودية تتبنى سنويا شعار «حج بلا سياسة»، فهي لا تستغله سياسيا في ترويج سياسات معينة أو فرض توجهات معينة وبالمقابل تمنع أي دولة من استغلاله سياسيا. الأمر الثالث يكمن في الصرف غير المحدود وتخصيص مليارات الدولارات لتنفيذ جملة من المشاريع الكبرى كمشاريع التوسعة في مكة المكرمة والمدينة المنورة وقطار الحرمين، إضافة إلى المشاريع في المشاعر المقدسة «منى، عرفات، مزدلفة» وغيرها من المشاريع والتي تهدف من خلالها لتقديم الرعاية الكاملة للحجاج منذ لحظة وصولهم وحتى مغادرتهم للأراضي السعودية.

نضج الإدارة لدى الحكومة في إدارة الحج، يأتي نتيجة للتجربة والخبرة التراكمية التي اكتسبتها خلال العقود الماضية في إدارة الحشود وكذلك المشاريع الضخمة التي أنفقت عليها الحكومة بسخاء لتسيير الحجاج في أداء مناسكهم، استطاعت أن تصل إلى الحد الأعلى في إدارة الحشود بل أصبحت تجربتها نموذجا يقتدى به عالميا. في مقال سابق كتبته تحت عنوان «الحج والسعودية: الحقيقة المحسومة» تحدثت فيه بأنه بالرغم من «التحدي والاختبار الذي تواجهه السعودية كل سنة والذي يكمن في التعامل مع ملايين البشر يمثلون 164 جنسية حول العالم، في فترة زمنية لا تتجاوز خمسة أيام ومكان محدد لا تتجاوز مساحته بضعة كيلومترات، لكن السعودية مع ذلك تنجح فيه بتفوق». تقول الدكتورة سلا يانويا ممثلة الأمم المتحدة على مستوى العالم بجنوب أفريقيا «إن دول العالم بما فيها جنوب أفريقيا وخلال استضافتها كأس العالم الماضية استفادت من الخبرة السعودية، والسبب بسيط أنه لا توجد دولة تدير وتنظم هذه الحشود وبهذا المستوى وبصفة سنوية إلا المملكة العربية السعودية».

اعتقد للوصول للصدارة بعد الإرادة والإدارة فلا بد من وجود رؤية واضحة لخدمة ضيوف الرحمن. فجاءت رؤية المملكة 2030 الطموحة لتقدم إستراتيجية متكاملة لتطوير منظومة الحج والعمرة، وإتاحة الفرصة لعدد أكبر من المسلمين في تأدية مناسك الحج والعمرة مع تحسين الجودة وإثراء التجربة. فكان أحد أهم أهداف هذه الرؤية زيادة الطاقة الاستيعابية لضيوف الرحمن من 8 ملايين إلى 15 مليونا بحلول 2020 ثم إلى 30 مليونا بحلول 2030. أنشئ إثر ذلك برنامج خدمة ضيوف الرحمن الذي أطلق في مايو الماضي (2019) ويشمل أكثر من 130 مبادرة، شارك في إعدادها أكثر من 30 جهة حكومية، لتحقيق ثلاثة أهداف إستراتيجية تتمثل في تيسير استضافة المزيد من المعتمرين وتسهيل الوصول إلى الحرمين الشريفين، وتقديم خدمات ذات جودة للحاج والمعتمر، وإثراء تجربتهم الدينية والثقافية. وبالتالي ما نشاهده الآن من النقلة النوعية الجديدة في خدمة ضيوف الرحمن هو امتداد وتطوير لجهود المملكة الجبارة في الحج، فهي كحبة الكرز فوق كيكة من الإنجازات.