سالم اليامي

بس يا ولد

صديقي أبو أنور رجل فاضل، الكل يعتقد من الجيران أنه يُحكم سيطرته التربوية على بيته، وعلى ابنه الوحيد أنور، الذي بدأ يتخطى سن الطفولة إلى سنوات الفتوة والشباب الأولى.أسرَّ إليَّ في لقاء عابر بأنه بات يعاني التعامل مع الأستاذ أنور، يقصد ابنه، وهكذا كان يناديه دائماً، وبيَّن أن معاناته تتفاقم بشكل طردي، فكلما تقدم أنور في العمر، شعر أن أدواته التربوية كأب تفقد تأثيرها، وشرح لي الرجل الهادئ وهو يمسح عينيه بظاهر يده اليمنى ويمسك بأطراف أصابعه نظارته المذهبة، ويواصل: الولد كان عجينة رحمان منتظما في دراسته، ويسمع الكلام، ولكن في السنوات الأخيرة أصبح تدريجياً مخلوقا آخر.ويقول، وهو يزفر الهواء من صدره: في السابق كنت أقول: «بس يا ولد». مرة واحدة ليبقى طوال اليوم هادئا ومنظما وبدون توترات، الآن أقول نفس الكلمة التي استخدمها منذ سنوات، عشرات المرات، وربما أكثر لكن دون فائدة. لم أجد ما أعلق به على حديث جاري، وصديقي، وتركت له الفرصة ليعلن رأيه الفصل، في ختام حديثه كما تعودت منه منذ سنوات، فقال بشكل تقريري: تربيتنا غلط! بل إننا مربون فاشلون. وسكت في حُزنٍ لم اعهده به. دارت بيننا أحاديث أخرى وتحينت الفرصة لكي اعود لموضوع أنور والتربية الغلط، وحاولت أن ابين لجاري الحزين أننا كآباء، ومربين لسنا خبراء تربية، والأهم أننا أو أغلبنا لا يتابع الجديد والمفيد في هذا الميدان عند التعاطي مع التربية، وهذا تقصير فردي لا شك، بقيت نقطة اجتهدت في بيانها، وأعتقد بصحتها، وجوهريتها في ميدان التربية، وفي ميادين الحياة الأخرى، وهي «البيئة التنظيمية» الغائبة لكثير من شؤون الحياة ومنها الشأن التربوي. وأعني بها أن الأستاذ أنور وهو مثال واضح في حديثنا، كان يستجيب لكلمة «بس يا ولد» في سن وظروف وفهم وذهنية واحتياجات معينة، ولكنه أصبح يتمرد عليها عندما لم يجد أنها تأتي من بيئة كاملة بمعنى أنه لم يواجه ما بعد بس يا ولد التي تمرد عليها، فعرف أن ليس هناك ما يمكن ان يُعيقه عن تحقيق ما يريد. وهذه الحادثة تذكرني برمتها برسالة من صديق قارئ ومثقف يقول في الرسالة التي وصلتني منه: إنَّ سر انتظام صفوف المصلين بسرعة هو ان كلا منهم يبدأ بنفسه. وهذا فيه قدر من الصحة ولكن حجر الزاوية ان المصلين الذين يصطفون بسرعة وخفة، يعرفون ان غير هذا السلوك يجعل عملهم غير مقبول. إذن هم يدركون البعد التنظيمي لبيئة المسجد. وليس الأمر تحميلاً للفرد مسؤولية الإطار والفضاء العام المنظم، والمقنن للسلوك.غياب البيئات التنظيمية وعدم قدرة الموجود منها على التَطور والتكيّف مع الأوضاع الجديدة في الحياة العامة للناس، تربية واقتصاد، وثقافة، وخلافه ستجعل من قصة الجار أبي أنور مثالا يتكرر في أكثر من مكان، وسيجد المجتمع ان أدواته القديمة لم تعد تعمل في مواجهة الجديد الذي لا يكف عن التطور.