د. فالح العجمي

هل للوجود الفعلي كينونة؟

اطلعت على مقولة ويليام جيمس، التي نقلتها زوجتي العزيزة عن قراءات لها في فكر فيلسوف البراغماتية الأمريكي، الذي اشتغل كثيرا في علم النفس والتصوف، وكتب مؤلفات عديدة مؤثرة في علم النفس الحديث، لكنه كان من مؤيدي الفلسفة المثالية. وقد كان نص تلك المقولة: «إذا تقابل شخصان، فإن الموجودين في الواقع ستة أشخاص: هناك كل شخص كما يرى نفسه، وكل شخص كما يراه الآخر، وكل شخص كما هو فعليا». وتناقشنا بشأن هذه المقولة، وكان رأيي أن الموجودين هم أربعة أشخاص لا غير، الاثنان من وجهة نظر كلٍ منهما. أما وجود كل شخص منهما كما هو فعليا فلا أساس له في رؤية العالم، التي تتشكل من خلال الصور الذهنية. وهذا يعني أن وجود أي منا فيزيائيا لا يعني أن هويته وخصائصه تتحدد من خلال تلك السمات الموضوعية المتعينة من خلال خصائصه الفيزيائية، وكذلك سماته الخُلُقية ليست قوالب يمكن التعرف عليها وتصنيفها بناء على محددات واضحة لا تقبل الشك والانطباعات الشخصية. وقد عادت بي الذاكرة وأنا أحلل هذا الموضوع إلى ما كنت أقدمه لطلبة الدكتوراة عن عدم وجود الحقيقة المطلقة، التي تتحدد في رأي أصحاب المذاهب المثالية من خلال عوامل موضوعية بحتة، لا تتدخل فيها آراء الأشخاص. وقد أصبحت أغلب الحقول العلمية الحديثة المتصلة بالفلسفة والعلوم النظرية تؤكد هذا المنحى بأن الحقيقة دائما نسبية، وتختلف من شخص إلى آخر من خلال زاوية النظر، وأيضا من خلال المعارف والآليات التي يستخدمها كل عصر في التفكير. وأشرت إلى كون هذا الفيلسوف (ويليام جيمس) قد عاش أغلب فترة حياته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت منطلقاته معارف ذلك العصر. وقد استجدت مكتشفات مبهرة في دراسات علم النفس وعلوم الإدراك المتعددة وعلوم الأعصاب والدماغ، مما يجعل معارف القرون الماضية بدائية مقارنة بهذه المكتشفات. وأتذكر أن أحد الطلبة في تلك المحاضرات قد تساءل بدهشة عن كونه يحس بالضياع، إذا انطلق من كون كل شيء في هذا الكون غير حقيقي، إلا من خلال فلترة نفسية - كيمائية وعصبونية وثقافية، أي أن أدمغتنا هي التي تصنع تلك الكيانات التي نتصور بأنها حقيقية. فقلت له: هون على نفسك! وخذ مثالا من هذه القاعة، هل تعرف زميلك الذي بجانبك تمام المعرفة؟ وهل تستطيع وضع محددات موضوعية له فيزيائيا وإنسانيا؟ قال: ليس بتلك المعرفة التامة، وفيزيائيا يمكنني أن أصفه بدقة، وإنسانيا حسب معرفتي به كذا وكذا. قلت له: طيب، أنت فيزيائيا ربما تصفه بالطويل والضخم انطلاقا من ثقافتك التي تعود الناس فيها، أن من يتجاوز 170 سم يُعد طويلا، لكنه في هولندا أو البلدان الاسكندنافية يعد ربما من متوسطي الطول. وحكمك عليه إنسانيا كان من خلال تجاربك معه، بمعنى أنه تصور ذهني مخزن لديك تستدعيه لدى رؤيته أو سماع اسمه. لكن لنترك حكمك أنت، ونسأل عن حكم أهله عليه، هل يعرفون كل جوانبه الفيزيائية والإنسانية تمام المعرفة؟ وهل يستطيعون إصدار أحكام موضوعية بشأنه، ولا يختلف أحدهم عن الآخر في هذا الشأن؟ وهذا يعني بأنه لا يوجد كيان حقيقي للشخص، إلا من خلال التقسيمات المنطقية الصورية، التي تفترض الأشياء وأضدادها، وتقسم الكينونات بناء على ذلك.