د. فالح العجمي

جاك العلم يا أبو التعلوم

بعض الشباب في عصرنا الحاضر لا يتقن كثيرًا من العبارات الشعبية التي يستخدمها كبار السن والمتحذلقون من أصحاب الدعاوى في الحجاج والدفع بمقولاتهم إلى الواجهة. ومن تلك العبارات المستخدمة ذات الشأن في عدد من الحوارات على المستوى الأسري أو الجمعي في عدد من السياقات العملية مقولة: «جاك العلم»، وبعض قريناتها من الاستخدامات الحاسمة الحازمة. وكنت مؤخرا قد استمعت إلى برنامج في إحدى إذاعات ال إف إم بهذا الاسم، وهو طريقة موفقة لتوظيف الحمولة التراثية في مثل تلك العبارات في حياة الناس اليومية المختلفة في ايقاعها وظروف تعامل الناس معها عما كانت عليه الأوضاع في ذلك الزمان. حتى وإن كانت أبعاد هذه العبارة في زمنها الفعلي تختلف عما يستخدمها فيها معدو ومقدمو ذلك البرنامج، حيث كانت تعبر عن موقف جاد تماماً، خلافاً للطبيعة الترفيهية لهذا البرنامج الإذاعي. ففيما كنا نسمعه أو تنقله بعض المدونات الشفهية من عبارات في هذا السياق، ما كان يصرخ به الآباء أو الأمهات في الإطار العائلي: «اسمع علمٍ يوصلك ويتعداك»! فإذا قيل بلهجة حادة، وفي سياق تهديد، فإن صاحب السلطة في الأسرة قد بلغ به الغضب مداه. وعلى الشخص المعني أن يتوقع العقاب في أي لحظة، أو يتراجع عن الأخطاء الجسيمة التي أدت إلى تأزيم الموقف. وإذا قيلت في إطار خصومة بين أناس في الشارع أو في العمل، فإن التوتر يكون قد ساد بين أولئك المتخاصمين، وربما يتوالى التصعيد والتحدي من الجانبين. لكن من الناحية الأنثروبولوجية الصرفة، كيف يمكن توصيف المجتمع الذي يسود فيه مثل هذا التعالم؟ وكيف يجري استقصاء حالات ازدراء الرأي الآخر، حين يظن مستخدم المقولة أن ما يعرفه، أو ما هو متيقن منه (وربما دون برهان، بل من خلال ترديد الكلام في بيئته الصغيرة) هو منتهى العلم وقمة الحصافة في تقدير الأمور ومعرفة الحلول السليمة والخيارات الصائبة؟ وفي الواقع أنه كلما مرت بي عبارة تذكرني بهذا السياق، استحضرت موقفاً لأحد المسؤولين الذين يتوترون إذا بدأ أحد مراجعيه شرح ظروفه بقوله: «خلني أعلمك...»، فيستشيط غضباً، ظناً أن العبارة مقصودة حرفياً، وأن هذا الشخص البسيط أتي ليعلّم هذا المسؤول. لكنها في حقيقة الأمر من مترسبات تلك البنية الذهنية، التي ناقشنا تصوراتها عن رؤيتها الأحادية للعالم أعلاه؛ ومن خلال خلطهم بين ما يستقر في ذهن الفرد من معلومات وبين العلم المجرب، والمتحققة طرقه بوسائل شتى قبل تبني نتائجه على أنها معطيات علمية. وفي هذا الإطار بالذات كنت قد تباحثت مع مجموعة أغلب أفرادها من أصحاب الصوت العالي، الذين يأخذون رؤيتهم للعالم من المقولات الشعبية السائدة. وكنت أريد وقتها أن نؤسس في نقاشنا الذي طال وتشعبت جوانبه مفهوماً للعلم، واستحضرت معهم بلغة هادئة ما كان توصل إليه القدماء بشأن تصنيف العالم والحافظ والشارح، وغيرها من المصطلحات، التي يعني كل منها أن من تطلق عليه، يتصف بسمات تميزه عن الآخر في اهتماماته وقدراته الذهنية ومنهجه في العمل وتناول الأمور وتحليلها. لكني عجزت أن أجعلهم يقتنعون بضرورة تأسيس قواعد للنقاش حتى يسير قدماً بخطوات سليمة ومتفق عليها، وآثرت أن أنسحب من النقاش عوضاً عن مسايرتهم في الضوضاء.