د. فالح العجمي

فوبيا الرأي المتفرد والاستقلالية (2)

كنا قد تحدثنا في الجزء الأول عن السعي الحثيث للتقليديين خلف ما يُطلق عليه «السناعة»، دون الالتفات إلى الآثار التي قد تخلفها عملية فرض تلك الأطر بصرامة، ونتساءل بدءاً مدى رضا أنصار هذا المسعى عن أنفسهم: ألا يخجل المؤيدون لاستشراء هذه الظاهرة من كون المجتمع قد أصبحت أغلب شرائحه تتسم بالنفاق، مع اختلاف في الدرجة؟ مثلما اتسعت مظاهر المبالغة في الكرم والاحتفاء بالضيوف أو بعض المناسبات المعتادة، من أجل أن ينقل هذا عنهم في أوساطهم الاجتماعية. حتى إن المناسبات الكبيرة، التي يحضرها بعض الوجهاء أصبحت ذات طبقية في الموائد وطرق التقديم بين طاولات الخاصة، الذين يراد أن يأخذوا فكرة عن مستوى الحفلة، وربما مدى قدرة المضيف على إكرام ضيوفه. وهذا في واقعه يخالف المنظومة التقليدية، التي تجعل الضيوف جميعهم في منزلة واحدة وكبيرة عند رب المنزل، أو صاحب الضيافة. وكذلك امتد الأمر إلى مناسبات شخصية جداً مثل العزاء؛ حيث أصبحت صفحات الشكر على عيادة مريض أو القيام بالواجب نحوه، أو العزاء تميز بين الناس حسب فئاتهم، وهو مخالف لما درجت عليه القيم العربية العريقة، التي ترى فيمن يقوم بالواجب حسب الأصول هو صاحب الفضل الأول، وليس من تعلو قيمته في المجتمع، حتى وإن كانت مواساته في المرض أو عزاؤه بواسطة التلفون. ونتيجة لهذا التقوقع في دائرة أفعال الأولين وقوانينهم، والخوف من ردات الفعل تجاه أي تغيير، أو حتى تأقلم مع الظروف المستجدة في الحياة؛ أصبحت أغلب شؤون التخطيط العائلي في المناسبات أو الاستمتاع بأوقات الفراغ محكومة بأطر يصعب على من يخضع لسطوتها أن يتصورها ويعملها وفقاً لما يريد. وإن حدث ذلك، فلا بد أن يكون بالتواءات وإخفاء لبعض التفاصيل، تجعل الأمر برمته شبه مصطنع، ويعيش صاحبه في رعب من معرفة بعضهم لأي من التفاصيل المراد إخفاؤها. كما صاحب هذه الازدواجية انتشار ظاهرة أصبحت تسمى «الاستشراف»، وهي أن يبالغ المنافق أو المتزلف في مديح الصالحين، أو إظهار الولاء للقيم التقليدية بصورة يأنف منها التقليديون أنفسهم. فمن يعرف في قرارة نفسه أنه غير منسجم مع ما يدعو إليه، تصبح مواقفه نشازاً لا يمكن أن يقبلها عاقل، ولا يعترف له الواعون بأي مصداقية. وسواء كان ذلك الاستشراف في قضايا سياسية كالمزايدين على القضية الفلسطينية، بإنكارهم حتى ما يقبله الفلسطينيون أنفسهم، أو كانت في قضايا اجتماعية وتنظيمية محلية، خاصة المتعلق منها بالمرأة أو بعض المستجدات، التي تطمح إليها فئات من المجتمع كالسينما وإقامة الحفلات الغنائية. ما الذي يمكن أن نخسره من قوة هذه الفوبيا في المجتمع؟ لا شك أن الأسوأ ليس مقاومة أولئك المصابين بالفوبيا مما يرونه جديداً أو خارجاً عن أطر تقليدية عرفوها؛ بل في تخوف عدد كبير من الناس من أن يمارسوا تجديداً في تعاطيهم مع الشؤون العامة، أو حتى في بعض أمورهم الخاصة، وخاصة من الناشئة الذين يُتوقع منهم الإبداع في بعض أمور الحياة، أو أساليب التعامل مع المشكلات الطارئة. وبهذا يخسر المجتمع طاقات كان يمكن توظيفها في الإبداع وابتكار آفاق جديدة؛ فالمقلدون لا يمكنهم أن ينتجوا مسارات إبداعية تفيد المجتمع، أو يوظفوا عقولهم في حل المشكلات بأيسر الطرق وأنجعها.