مهنا الحبيل

حمود الخضر .. الفن المختلف

من طبيعة النفس البشرية بل من فطرتها أنها تحتاج إلى تفاعل نفسي ووجداني ملح بين الفترة والأخرى، يتداخل بين مشاعرها وصور الحياة وتسترخي في ظلاله، ومن صور هذا التفاعل التمحور في صوت الحُداء أو الغناء أو الانشاد فالتسميات متعددة، لكنها لمعنى واحد دخلت عليه أدوات الموسيقى أو لم تدخل، بغض النظر عن الخلاف فيها، وعن ماهية هذه الموسيقى المتعددة وآثارها على النفس البشرية وعلاقة الكلمات بها، وهذا الغناء قديم جداً في التاريخ الاجتماعي للمسلمين منذ القرون الأولى.ومن صوت حداء البدوي إلى منصة الإيقاع بقيت الآثار النفسية تلعب دوراً كبيراً في علاقة هذا النوع من الفن في النفس البشرية، لكن الجديد اليوم هو أن الفن الصاخب والكلمة السخيفة أو الوقحة والتأثيرات الصوتية العالية، باتت جرعات يومية مُكثّفة تُقدم بشكل مجنون لساحة المستمع تداخلاً مع الفقرات الإذاعية، أو ألبومات تُحمّل الكترونيا أو تُشترى، أو اذاعات تعزفها لأربع وعشرين ساعة، وعليه أضحت تُشكل جزءا من توجيه الشباب بل ودندنات الطفولة البسيطة.وليست القضية في مساحة الغزل العذري والحب التي هي مكون رئيس لأشعار العرب رددها كبارهم وصغارهم ونقلها وتمتم بها النُساك والجُلاّس، لكن في تراكم ذلك الكلم التافه ومعانيه وإثارته المهووسة دون ذوق ولا حس راقٍ للصوت والنغم، ثم والأهم فقدان معاني القيم والتوجيه اللطيف والإرشاد للشباب وكل إنسان للمعاني الإيجابية التي تحتاجها النفس السوية لحياتها الاجتماعية الناجحة وشؤونها الإنسانية المختلفة.وأمام هذا الكم الهائل برز الفنان الكويتي حمود الخضر في هذا الشارع الصاخب، تنحّى جانباً عنه، ولكنه وربما عن إيمان فكري له ولأصدقائه ومن يكتب كلمات أغنياته، أخذ وسائط الفن الحديث ثم صاغها في لغة جميلة ومعان قيمية متعددة للشباب والأسرة، وهذه المعاني تُنتقى بصورة دقيقة لمعالجة بعض الظواهر السيئة التي تقتحم المجتمع وتختطف وجدان الشباب سواءً في التعلق الشديد بالمظاهر وصراع الزينة وعمليات التجميل المجنونة، أو التظاهر السلوكي وبناء الذات على النفاق والتزلف.وعلى سبيل المثال أغنية -كن أنت- وبقية ألبومه كتبت كلماته كخريطة طريق توقظ الشاب والشابة من الانغماس المستمر بالمظهريات والسلوكيات القاسية على أرواحهم وتستنزف مشاعرهم وأوقاتهم، وكأنما هي إحدى وصفات الدواء تُقدم للشباب في قالب ممتع لا واعظ، قد لا يقبله من والديه أو من مقربين، وقس على ذلك ألبومات متعددة لاحظت أنها تسير في ذات السياق إن جاز التعبير أطلقنا عليها التربية الغنائية، وقديما قيل في سلف الأمة إن من الإنشاد إرشادا.وقد تكون للناس توجهاتهم المختلفة ومنها المحافظة التي لا تتقبل هذا الترفيه الملتزم، ولكل بيئة قناعات مساحاتها، لكن المؤكد والذي لا شك فيه، أنّ هناك أعداداً ضخمة من أبنائنا في الخليج العربي والوطن العربي الكبير بمئات الألوف بل بالملايين، تعيش تحت هذا القصف والعزف السمعي المُدجج بتفجير النزوات وذوقيات ساقطة وتعبيرات منحطة، باتت تحت ما يُسمى بالإدمان لهذه الظواهر.وهي كما شرائح أخرى ترى أن لها حاجة سماع وترفيه، ولن تغادرها، في حين تَعزُز هذا النوع من الغناء القيمي الراقي يُمثل بعض البدائل الراشدة لصناعة النفس وتوجيهها، وغرس الإيمانيات الروحية بصوت الحداء والغناء الجميل.كما أني وأنا أعرض لنموذج حمود الخضر فلستُ أزعم أن الفن القيمي محتكر لفئة أو صفة، وعليه فما دام أن العديد من الفنانين ذوي الأصوات الجميلة والجماهير الكبيرة، لبعضهم أيضا قناعات ربما صرّح بها أو كتمها في قناعته، للحاجة لاستثمار صوته في هذا الغرس والتوجيه، فليتهم يُصدرون مثل هذه الألبومات التي تعتزل ذلك الضجيج في كل أو بعض انتاجهم، وتقدم ما يشارك في الإرشاد في رسالة ماتعة في الترفيه والتوجيه وترويح النفس معاً، فيكون قد ترك سجلاً لبناء الأجيال أمام ترسانة من الفن الهابط تعصف بمجتمعاتنا وشبابنا.