اليوم - الدمام

الممانعة المجتمعية وفقه الواقع

لم يعد تغيير الأخلاق والقيم أمراً تلقائياً, يحصل بالتأثير والتأثر, وتفاعل الحضارات فيما بينها وتبادلها الخبرات والأخلاق والقيم, بل أصبح هذا التغيير أمراً مقصوداً, وحرباً سياسية واستراتيجية تخطط لها دول العالم الأول, ساعية إلى الهيمنة على الشعوب بتغيير أخلاقها, وتحويل قيمها, فيسهل بعد ذلك الاستحواذ عليها, بديلاً عن الفكرة القديمة التي تسعى إلى إرضاخ الشعوب وقهرها سياسياً وعسكرياً. إن فكرة حرب القيم وتغيير الأخلاق ليست نتاجاً لعقدة المؤامرة - كما يزعم البعض - بل هي معلومات حقيقية, ونتائج يقينية, نطقت بها أفواه القوم ورشحت به كتاباتهم, وفاضت بها تقاريرهم, فهي حرب ضروس, ومعركة طاحنة تحتاج إلى إعداد العدة للمواجهة والتصدي, والوقوف أمام هذه الموجة العاتية والآتية من قبل أعداء الله لتغيير أخلاقنا وقيمنا.هذا الكتاب : (الممانعة المجتمعية - تأصيل فكري للمفهوم والوسائل - محمد إبراهيم السعيدي) الذي بين أيدينا جاء ليوضح لنا طرق الوقاية من هذه الحروب الأخلاقية, وأساليب التصدي لها.بدأ المؤلف كتابه بمقدمة بين فيها نقاطا مهمة جدًّا في كتابه تاريخ الأخلاق والقيم, فأوضح أن الأمم - المتحضرة خصوصاً - تعتني بكتابة تاريخ الدول والحروب والأقطار والعقائد, وتهمل تاريخ الأخلاق والطبائع, إلا ما يمكن استنباطه من كتب الأدباء والمؤرخين, ونتيجة هذا الاستنباط خطيرة متأثرة حسب إدراك الكاتب وميوله الخاصة.وضرب على ذلك مثالاً بتاريخ الأخلاق في البصرة أوائل القرن الثاني وكيف أنه يختلف حسب المصادر المختلفة، ويخرج المؤلف بنتيجة مهمة وهي أن المجتمعات المنغلقة تحافظ على طبائعها أزماناً قد تصل إلى قرون بعكس المجتمعات المنفتحة فإن التغير الأخلاقي يتسارع ولا يستغرق سوى سنين قليلة.ويبين المؤلف - كما أسلفنا - أن التغيير القيمي لم يعد مسألة تلقائية، بل أصبح صناعة سياسية واستراتيجية يخطط لها, مبيناً أن المجتمع هو حارس الأخلاق والقيم وينبغي أن يكون كذلك، لأن القيم والأخلاق هما آلته التي يتحرك بهما في يومه وليلته، بل في منامه ويقظته، وفي حله وترحاله.وبعد هذه المقدمة يشرع المؤلف في تفاصيل كتابه، منها :عنون له المؤلف بـ (تأصيل الممانعة المجتمعية) وبين فيه أن الأصل في أخلاق الأمم وقيمها أنها تنشأ من داخل تلك الأمم، لكن هذا ليس عائقاً دون تأثير الأمم في بعضها بحكم الجوار أو المخالطة.وذكر المؤلف شرطين لإنتاج مجتمع منتمٍ لأصله وأمة ذات قيم رائدة:الشرط الأول: أن تنشأ القيم داخل المجتمع نفسه نتيجة تفاعل الإنسان مع أصول القيم، وهي: دينه وبيته ولغته وتاريخه ومقدرات أرضه.الشرط الثاني: أن يكون هذا التفاعل لإنتاج سلوك أو عادة أو رؤية مستغرقاً لكامل أصول القيم الاجتماعية لا مع البعض دون الآخر.ثم ذكر المؤلف تجربة تاريخية ممثلاً بها على ناتج تفاعل الإنسان مع بعض مكوناته الأصيلة دون البعض الآخر, وهو ما جرى في العالم الإسلامي، حيث نشأ بعض العادات والرؤى السيئة جدًّا نتيجة أنها لم يراع فيها الدين أو التاريخ أو البيئة أو اللغة. بعد الاستعمار الغربي لمعظم بقاع العالم الإسلامي بدأ المسلمون يحتضنون عناصر قيميَّة لأمم أخرى نشأت في بيئات مختلفة عن البيئة الإسلامية، ليزيد الأمر سوءاً ظهور اجتهادات فقهية تحاول الربط بين هذه العناصر الوافدة من قيم الآخرين وبين الأصول المكونة لقيمنا وأعظمها الدين.ويذكر المؤلف أن من أسباب سوء الواقع القيمي التي يغفلها المؤرخون كثيراً غياب الممانعة المجتمعية أو ضعفها.ثم يعرف المؤلف الممانعة المجتمعية فيقول هي: اقتصار المجتمع على دينه وبيئته وتاريخه ومقدرات أرضه ولغته في إنتاج آدابه وأخلاقه ورؤاه وعباداته وعاداته وأعرافه. وبين أن الحث على الممانعة المجتمعية لا يعني رفض مطلق التأثر بالآخرين, بل سيكون التفاعل مبنياً على أصول قيمه وتصفية ما يرد من قيم خارجة عنه.