د. أحمد قاسم الغامدي

خطر الغلو

أصبح التطرّف واقعا مشاهدا وملموسا في حياتنا اليومية ثقافة وعملا وفكرا وعقيدة، إننا لم نعد بحاجة لتوصيفه بأكثر مما نراه بأعيننا، فما وصل إليه الغلو ثقافيا وفكريا وعقديا في بلادنا شيء مخيف، وقد يصل عمليا لمثل ما نراه اليوم في البلدان التي من حولنا متى أُتيحت له الفرصة بفراغ سياسي أو أمني، إن ما نشاهده من أعمال التطرف على الشاشات ونقرأه في الصحف ونسمعه عبر وسائل النقل المختلفة، ونتذوق مرارة تورط بعض أبناء بلادنا فيه، يعكس خطورة المرحلة التي نحن فيها، لقد استطاع دعاة التطرّف والفتنة من استقطاع شبابنا كجزء من وقود تلك الحروب، لقد كان ذلك سهلا لأنهم أصبحوا ثمرة جاهزة من ثمار الغلو الذي دفع بهم لعقوق أمهاتهم وآبائهم، فضلا عن عقوقهم لحقوق وطنهم ومن ولاه الله أمرهم، لقد سهل اقتطاعهم والدفع بهم إلى جاهلية عمياء وسفك دماء وقتل وتفجير وتدمير وفساد وفتنة شعواء، وما سهّل ذلك إلا الغلو في الخطاب الديني عموما، مع الاغترار بدعاة الحزبية والفتنة والغفلة عن اتباع بعض أبنائنا لخططهم ومناهجهم وحزبياتهم المنحرفة فكرا وعملا، زاعمين الحرص على إصلاح الأمة أو استعادة الخلافة، والحق أنهم مفسدون، وإن كانوا على تفاوت، فمنهم الجاهل المستغل، ومنهم العارف بما يعمل، ومنهم الساعي للسياسة والرياسة باسم الدين، وللأسف فإننا رغم كل ما نراه من مساوئ الغلو والتطرف لا نزال نشاهد مظاهره الفكرية قائمة ودعاته لا يرعوون.إن سوء الفهم للدين والتعصب للرأي وعدم إتاحة الفرصة لاستماع الرأي الآخر ولّد إرهابا فكريا، إن هذا الإرهاب الفكري ما يلبث أن يتحول في لحظة انفلات إلى إرهاب جسدي وفتنة.إن الغلو والتطرف خطر كبير، يؤسس لانتشار الفكر التكفيري في المجتمعات المسلمة، وأصحاب هذا الفكر يسرفون في تضليل الناس وفي تكفيرهم، ويستبيحون دماءهم وأموالهم، ويقتلون الأبرياء لمجرد أنهم يخالفونهم في الرأي ويتوعدون كل من خالفهم في الدين أو المذهب بالإبادة.ومن هؤلاء، من يكفّر الحكومات والأنظمة، ويحكمون بارتداد جميع العاملين في قطاعات الدولة، ليبرّروا سفك دمائهم، ويَعتبر هؤلاء الرجوع إلى المحاكم تحاكما إلى الطاغوت.والدين براء من ذلك كله وقد حذر منه، فعن أبى هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما. وعن أبى ذر أنه سمع رسول الله يقول : «من دعا رجلا بالكفر أو قال عَدُو الله وليس كذلك إلا حارَ عليه». وعن ثابت بن الضحاك عن النبي قال «لعْن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله».وقال عليه الصلاة والسلام : «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».إن عصمة دم المسلم وعدم التكفير بالذنب من الأصول المتفق عليها في الدين وليس كل من فعل كفرا أو قاله يكون كافرا، لأنه قد يكون جاهلا أو متأوّلا أو مكرها أو مخطئا.إن الغلو والتطرف لمّا كان خطره عظيما، حذر منه رسول الله فقال: «إنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين». وقال عليه السلام: «هلك المتنطعون قالها ثلاثا».فالغلوّ هلاك لكل شيء، على مستوى الأفراد وعلى مستوى المجتمعات، إنه هلاك للأنفس والممتلكات والبلاد والعباد وهلاك للحياة وعمارة الارض. ولابد أن يعالج التطرف والغلو بحسب مرحلته الفكرية والعملية.نبدأ بمحاربة الجهل بإتاحة الفرصة لنشر العلم الصحيح ووسطية الدين بين أفراد المجتمع، خاصة فيما يتعلق بقضايا الولاء والبراء وتكفير المسلم، وحقوق ولي الأمر المسلم، وموقفنا من غير المسلمين، أو من بعض المذاهب الإسلامية وغيرها من القضايا المعاصرة، ويجب أن تتصدى مناهج التعليم لمشكلة التطرف بشكل علمي، فيجب أن تتناول قضايا ومسائل تؤصل بها معرفة الطلاب بسماحة الإسلام ويسره ووسطيته وحقوق الولاة، وحقوق الوطن وحقوق المسلمين وحرمة دماء المسلمين وأعراضهم وأحوالهم.أما إذا كان الغلو في مرحلة متطورة من الإضرار بالناس ومصالحهم، فيجب مواجهته بعقوبات شرعية رادعة، ولا ينبغي التهاون معه، ولولي الأمر حق التحفظ على دعاته بحبسهم حتى الموت، ومن تجاوز ذلك بشق العصا والفتنة فقد جاءت النصوص بقتاله وقتله وقد قال عليه السلام: «لأن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد».إن أهم ما يجب أن تتضافر الجهود عليه في الوقت الراهن هو مواجهة التطرف والغلو في مرحلته الفكرية الكامنة، وإلا فإن النتائج مأساوية والنجاة محتملة والثمن باهظ.* الباحث والمستشار بمركز علوم القرآن والسنة