د. عادل رشاد غنيم

مؤسساتنا التعليمية ودورها في تعزيز الأمن الفكري

يعد التعليم أحد المداخل الرئيسية لتغيير مفاهيم المجتمعات وأفكارها؛ لذا فإنه من الضروري تمكينه من الإسهام الفعال في تحقيق الأمن والتنمية الثقافية للمجتمع، لكن الشغل الشاغل لأغلب لمؤسسات التعليمية يتجه إلى نقل المحتوى الأكاديمي أو الدراسي إلى أذهان الطلاب، ولذلك قلما يبقى هناك فائض من الوقت أو الجهد للقيام بمهام تربوية ضرورية لصياغة شخصية ناضجة ومتوازنة لطلابنا، لتأهيلهم لدورهم في التنمية المجتمعية ووقايتهم من أشكال الانحرافات الفكرية أو السلوكية.بيد أن التحديات التي تحاصرنا والمخاطر التي تقترب من أمننا، تتطلب إفاقة لما يجب أن تفعله مؤسساتنا التعليمية تجاه مسئولياتها التربوية.لا بد من مناقشة جادة لتعزيز الأمن الفكري من خلال تلك المؤسسات التعليمية، وإعداد خطط عملية لتفعيل دور المعلمين والمعلمات وأعضاء هيئة التدريس في الجامعات دون أن تقتصر على إقامة محاضرة أو عقد ندوة ثم ينفض عنها الحاضرون بغير طائل.والتربية هي المدخل الأنسب للتغيير والتصحيح، فالتربية هي المعنية بتكوين المفاهيم والقيم والمثل العليا الصحيحة وتعزيزها في أذهان الناشئة وهي المسؤولة عن بناء الاتجاهات وضبط مسارها، ولا بد أن تقوم المدرسة والجامعة بنصيبها في إطار يتم التخطيط له بشكل علمي ومدروس، وفي شراكة مع الأسرة، والمسجد، ووسائل الإعلام وغيرها من المؤسسات ذات الصلة. والهدف مساعدة الشباب على ترشيد وعيهم وحماية عقولهم من الأفكار المنحرفة التي تصيبهم بخلل عقدي، وغلو ديني، وانحلال خلقي، وانحراف سلوكي وعنف دموي.ولقد كانت عناية النبوة بالمفاهيم بارزة في الكثير من أحاديثها مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - (المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم)، فالمؤمن في التعريف النبوي من كان واحة أمن لمجتمعه في أرواحهم وممتلكاتهم وهذا بعد مجتمعي جديد في مفهوم الإيمان صادر من فم النبوة.وأتصور أننا بحاجة إلى الشروع في بعض الإجراءات لتفعيل دور المؤسسات التعليمية في المدارس والجامعات:أولا: تضمين الأمن الفكري في المناهج التعليمية في سياقها الملائم، فمع أهميته نجده غير منصوص عليه، ولذا فلا بد من إدخال المصطلح وقضاياه والتأكيد عليه في كل مقررات التعليم العام، كما يمكن أن يدرج كمتطلب جامعي.إن علماء الأصول جعلوا من أهداف الشريعة الغراء (حفظ العقل)، وهو مقصد أعم في دلالته من (الأمن الفكري)، وبينوا الأحكام التشريعية التي تحقق هذا المقصد.ثانيا: تطوير كفايات المعلمين وقناعتهم في طرق التدريس، وأساليب التعامل، وصقل مهاراتهم وتوعيتهم بالتحديات الفكرية التي تتعرض لها الأمة الإسلامية، ليكون أقدر على تحقيق الأهداف مع طلابهم من خلال آليات الحوار المتعاطف.إن تقديم نماذج واقعية وتدريبات عملية وسيلة أفضل لاكتساب المهارات، ونذكر هنا النموذج الرائع الذي قدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حواره مع الشاب الذي فاجأ مجلسه بطلب غريب هو أن يأذن له في الزنا، أما من كانوا في المجلس فلم يحتملوا ذلك فأقبل القوم فزجروه، وقالوا: مه مه! لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من الشاب أن يقترب منه، وحاوره دون أن يورد له آية أو حديثا، إنما سأله: (أترضاه لأمك....؟) ثم ختم الحوار بلمسة حانية ودعاء خالص (فوضع --يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه".والنتيجة نجاح النبي – صلى الله عليه وسلم - في اقتلاع الفكرة الغريبة من رأس الشاب دون أن يضطر إلى تحطيم هذه الرأس.ثالثا: العناية بالأنشطة الطلابية، وتطوير برامجها؛ ويمكن من خلالها تنمية بعض القيم الاجتماعية لدى الناشئة مثل المسؤولية، والتسامح وروح الانتماء من خلال ندوات ومشاهد وحوارات مع تبصير الطلاب بالتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية عامة ومجتمعاتهم خاصة. وتكوين الفكر الناقد، وتشجيعهم على إبداء آرائهم، وتصحيح المفاهيم الخاطئة.ونحن نعرف كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعنى بالشباب من خلال أنشطة بناءة في التعلم والبناء والرياضة والفروسية، وكان مسجده ساحة عامرة بكل هذه الأنشطة، كما كان يتابع أية أفكار متطرفة، ويعالجها في حينها بأسلوب (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا) فعندما بلغه أن نفراً من أصحابه قال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، حمد الله وأثنى عليه وقال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".إن الأمن ثمرة غالية للإيمان والعمل الصالح، وليس وليد أمنية حالمة أو جعجعة فارغة، وذلكم ما وعد الله تعالى المؤمنين: (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا). * أستاذ مشارك بجامعة الدمام