د. إحسان بوحليقة

داعش .. لا تهرول عبثاً

نقل تقدم "داعش" السريع في العراق المشهد في منطقتنا العربية لأفق جديد، هناك من يظن أنه يناقش أو يحلل، لكن كل ما يفعله هو أن يسفه ما يحدث على الأرض، في حين أن ما يحدث على الأرض هو الواقع وهو الحقيقة.أتفق على أن الحديث عن الحق والباطل حديث مشروع، لكنه يبقى في نسق آخر، نعم نَسقٌ يتقاطع، لكنه يبقى نسق آخر."داعش" واقع على الأرض، فهي تحتل الأرض، وتحرك القوات، وتشن الحملات، وكذلك تصدر البيانات التي تحتفي بها القنوات العالمية قبل المحلية، وتتناول شئونها الصحف العالمية والمحلية. وبالتأكيد فإن وسائل التواصل الاجتماعي ذات المحتوى العربي جعلت من "داعش" شغلها الشاغل، إذا "داعش" ليست عدما.داعش كائن موجود، له حدود وامتداد، هل تبقى أم لا؟ أم تتمدد وتتسع؟ وقد لا تكون الحدود مستقرة، فهذا هو المجهول الكبير. وقد لا يرحب به كثيرون، لكنه الواقع القائم الساعة، أم من يظن أنه سيستيقظ صباحاً ليجد أن "داعش" قد تبخرت، فهو بالتأكيد بعيد عن الواقع. ولابد من الاستدراك بالقول: إن الاقرار بوجود الشيء لا يعني حتى قبوله، بل يعني فهم الصوره القائمة كما هي وليس كما نتمنى أن تكون أو نتصور أن تكون. وأهمية ذلك تكمن في أن فهم الواقع من حولنا فهماً صحيحاً قائماً على حقائق سيجعلنا في وضع أفضل للتعامل معه، بما يتيح لنا استخلاص خيارات قابلة للتنفيذ، وليس نثر التهيؤات والتمنيات.اللافت في تاريخ منطقتنا العربية على مدى السنوات الخمس المنصرمة، أنها تولد الأزمات ولا تحلها، حتى وجدنا أمامنا تلاً متراكماً منها. تبدأ الأزمة وتستمر، وتتبعها أخرى وتستمر، فيما تتفاقم الأولى، ولا تلبثا حتى تنضم لهما ثالثة.ما الذي يحدث؟ نعرف تفاصيل ما يحدث، لكننا لا نعرف ما الذي يُحرك الأزمات ويولدها، ولعلنا نعرف! ما نعرفه كذلك أن الشقاق فيما بيننا كان سبباً كبيراً ومحورياً، نَفَذَ من خلاله كل سوء.ونحن نُصرّ على أن نخطئ بعضنا بعضاً، ونتهم بعضنا بعضاً، فعلنا ذلك - كأمة - على امتداد قرون وتاريخ، وكنا نفعل ذلك ورقابنا ملتوية للتاريخ الماضي، فيما أجسادنا تسير للغدّ وهي تظنه الأمس أو تريد له أن يكون الأمس، وحتى عندما تَشخصُ أنظارنا تتطلع بعيون مفعمة بالعواطف الجياشة حباً أو كرهاً للأخوة والجيران المتاخمين والقريبين وحتى الأباعد، وكأن ميزان المصالح من المحرمات علينا ألا نستخدمه، في حين أن كل من له علاقة بنا يسعى لمصالحه، ومصالحه فقط.هناك من يريد أن يُجير ما نحن فيه لآخرين سلباً أو إيجاباً، لكن ماذا عن الشقاق فيما بيننا كأمة وكبلدان وكأوطان؟بمعنى آخر: هل نحن على استعداد لأن نترك الشقاق فيما بيننا؟ وإن كانت بلدان كثيرة بينها حروب وثارات ومآس قد حلت خلافاتها بالحوار، فلم أمة العرب الاستثناء؟ إما ودّ كامل أو قطيعة وتقاتل! لطالما صممنا آذان الدنيا بأننا كنا سادة الحضارة عندما كانت أوروبا تعيش عصورها المظلمة، فأين نحن الآن؟أعود لأقول: إن ظهور "داعش" بين ظهرانينا نتيجة لتطرف الشقاق وتغلب خيار الغلبة والغصب على أي خيار آخر، ومن يرد أن يجابه "داعش" فعليه أن يفهم أنها ما كانت لتنفلت من عقالها لولا الشقاق، وليس المقصود هنا بالضرورة الشقاق العقائدي. فعدم وجود آلية متحضرة وملزمة للتعامل مع الاختلافات جعلها تتكلس وتتحول إلى ثغرات ماكثة تستنزف الوفاق وتهيج الشقاق، في حين أن وجود آلية لاتخاذ القرار والمشاركة فيه يجعل التوافق هو الأساس للتعامل مع ما يستجد. لذا فظاهرة "داعش" لم تك لتوجد من العدم، لكنها حلت حيثما انعدم التوافق الوطني وكانت الجبهة الوطنية ممزقة متناثرة؛ تأسرها التجاذبات وتفتتها الولاءات ويستنزفها الكره والبغض والتنافر والتناحر.أينما وجدت هذه الأوصاف ستجد أن "داعش" أو أحدا يشبهها يأتي ليملأ الفراغ. أنظر لسوريا وللعراق كمثالين شاخصين أمامنا، ولا أبري هنا التأثيرات الخارجية، لكن منذ متى كانت المنطقة العربية بعيدة عن كل تلك التدخلات والتأثيرات؟ لكنها تضعف عندما نقوى وتقوى عندما نضعف.أختم بالقول: إن وسط الاهتزازات العاتية للمنطقة العربية، ننظر لدول مجلس التعاون كمنظمة إقليمية وكامتداد جغرافي له ثقل جيوسياسي واقتصادي. وفي مرحلة غير اعتيادية ليس مفهوما أن تمارس هذه المنظمة أعمالها روتينياً، فنحن نفتقد البعد الخليجي فيما تشهده منطقتنا من مستجدات.