د. إحسان بوحليقة

«جامعات» الملك عبدالله

عملياً، بوسعنا النظر لبرنامج الابتعاث بأنه كان بمثابة العلاج للأوجاع المبرحة التي أصابت مفاصل التعليم العالي في المملكة، وهي أوجاع عايشتُها أكثر من مرة؛ كعضو هيئة تدريس، ثم أتاح لي مشروع آفاق - الذي أطلقته الوزارة - أن أدخل في أعماق معاناة مخرجات التعليم العالي في سوق العمل.عبر مشروع آفاق أرادت الوزارة أن تبحث عن ذاتها وسط مجتمع شاب تواق للأفضل ونظام للتعليم العالي لم يك يجاري خطط الدولة ولا ضرورات تنمية الموارد البشرية المواطنة لتحقيق ما تتطلع له البلاد من تنوع اقتصادي واعتماد متنام على شبابها وفتياتها. برنامج الابتعاث اجترح حلاً عملياً وسريعاً، ففتح أمام خريجي الثانوية أفضل جامعات الدنيا، لينهلوا منها علماً، فوظف البرنامج بذلك مواردنا المالية السائلة، لتكوين رأسمال بشري مستدامفقد عانت منظومة التعليم العالي من: محدودية السعة المقعدية في الجامعات، وعدم تنوع التخصصات، وتركز الجامعات في مدن محدودة في بلادنا الشاسعة المساحة، وعدم ملاءمة مخرجات خريجي الثانوية العامة للالتحاق بالتعليم الجامعي. ولسنوات طوال كان طالب الثانوية العامة يتخرج ورغبته دراسة العلوم الطبيعية فيلحقوه "غصباً" بقسم الإعلام، أو يرغب في دراسة الإعلام فيجد نفسه يدرس علاقات عامة! وكان - لسنوات طوال كذلك - التبرير المعلب: هذا هو! أي خذ المقعد أو أغلق الباب معك وأنت خارج!من خلال مشروع آفاق استراتيجي النظرة، تمكنت وزارة التعليم العالي من أن تغوص في ذاتها. كانت الشفافية والنقد المرتكز إلى حقائق والنظرة للحلول والبدائل المتاحة أو حتى غير المتاحة حالياً، كانت تلك مطالب الوزارة. أقول هذا، وقد أتيح لي مع مجموعة من الزملاء المتخصصين إعداد إحدى الدراسات الارتكازية لمشروع آفاق، وهي عن مواءمة مخرجات التعليم العالي مع متطلبات سوق العمل، وتقبلت الوزارة والجهة المشرفة على المشروع (جامعة الملك فهد للبترول والمعادن) كل ذلك باحترافية عالية ومهنية موضوعية. من خلال دراسات مشروع آفاق، اتضح للقائمين على التعليم العالي في المملكة الكثير من نقاط الضعف، وكيف أن الموارد البشرية الشابة كانت تكابد مرتين؛ مرة عند انهاء الثانوية العامة وتحطم الرغبات على صخرة محدودية المقاعد.والثانية عند التخرج في الجامعة والمعاناة بحثا عن عمل لدى أصحاب عمل يبحثون عمن يُعينهم ويساعدهم بما يملكه من قدرات ومؤهلات وقدرة على النمو والتعلم، لا أن يأتي خريج يملك القليل من القابلية للتوظف.برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، استوعب التوصيات التي طالبت بتغييرات جذرية في نواح عدة من منظومة التعليم العالي، لا سيما في استيعاب الطلب عليه من قبل شبابنا التواق. فقد كانت هناك وجهتا نظر: إتاحة التعليم الجامعي لمن يرغب، أو إتاحته لنخبة باعتبار أن البعض كان يستشهد بأن في الدول المتقدمة نحو الثلث فقط من خريجي الثانوية يلتحقون بالتعليم الجامعي. لكن فات أصحاب وجهة النظر الثانية أننا دولة نامية تعتمد اعتماداً هيكلياً على العمالة الوافدة خصوصاً في الوظائف المهنية التي تتطلب تعليماً جامعياً وخبرة تتراكم بعد التخرج.وليس من المبالغة القول: إن برنامج الابتعاث وظف الموارد المالية التي تمتلكها المملكة باستثمارها في تكوين رأس المال البشري (human capital formation). فقد تمكن البرنامج من التخلص مع محدودية المقاعد ومحدودية تنوع التخصصات وانعدامها أحياناً إلى الآفاق الرحبة لأفضل جامعات العالم. وفي ذات الوقت اتخذت الحكومة قراراً بمضاعفة عدد الجامعات ونشرها في أنحاء المملكة حتى لا تخلو منطقة من المناطق الإدارية من جامعة واحدة على أقل تقدير. لنأخذ مثلاً، تعداد الطلبة في أكبر جامعاتنا الوطنية لا يتجاوز السبعين ألف طالب وطالبة، في حين أن عدد المبتعثين للولايات المتحدة فقط يفوق هذا العدد.لعلنا بحاجة للتأمل في الحل الجذري الذي تبنته الحكومة للتعامل مع تحديات التعليم العالي، ولا بأس من تطبيقه في مجالات أخرى.فخلال سنوات - ليست بالطويلة - تمت إعادة رسم منظومة التعليم العالي شكلاً وموضوعاً. فمن يستطيع الآن أن يتحدث عن عدم مواءمة الخريج لمتطلبات سوق العمل، دون أن يخاطر بتجنبه الموضوعية؟ بالأمس حضرت افتتاح "مهرجان الوظائف" في واشنطن الضخم من حيث المساحة وعدد المشاركين من جامعات ومستشفيات ووزارات وشركات قطاع خاص في كل القطاعات. فقد تقاطر الجميع، وبعد الافتتاح بدقائق امتلأ المكان على سعته بخريجين يبحثون عن وظائف، لتجد طابوراً منهم عند أجنحة البنوك والمستشفيات والجامعات خصوصاً، بل وجدت هناك من يسعى لإغراء المبرزين من الخريجين. فجهة منحتهم هدية مالية وأخرى تذاكر سفر وثالثة دعوة مدفوعة التكاليف لزيارتها. ليس هذا كثيرا على خريجينا إجمالاً وبالأخص المتفوقين، فمنهم من نال براءة اختراع، ومن نشر بحثاً في مجلة علمية مرموقة ومحكمة، ومن تفوق حتى في أكثر الجامعات الراقية تنافسية. لكني أكرر ما ذكرته هنا قبل أشهر : إن توظيف الخريج من مسؤوليات جامعته أو ملحقيته أو من ابتعثه! فإن لم يتوظف يصبح جزء مهم من عناء تخرجه عبثياً؛ فنحن نُخرج لنُوظف في الأساس.