د.مصطفى الحسن

الإنسان.. باعتبار ما كان والآن وما سيكون

هل الإنسان باعتبار ما كان من سيرته الذاتية وأفعاله وتاريخه وكل ما صدر عنه، أم الإنسان بحسب ما يبدو عليه الآن وفي هذه اللحظة دون اعتبار لأي زمن آخر، أم الإنسان هو باعتبار ما يمكن أن يكون.. من هو أنا وكيف أنظر للآخرين؟!هل أنا أفعالي الماضية وتاريخي السابق، حين أتحدث عن لحظة حب أعيشها الآن، فهل أنا امتداد لكل تلك التجارب التي مرت بي ومررت بها، لكل لحظات الجمال وخيبات الأمل، لكل ابتسامات الفوز وهزائم الرجل، هل هذا كله ما أكونه الآن، وأنا أعيش لحظة الحب الجديدة؟!هل تعلمون كم عدد الأمهات اللاتي يخفين خيبات الحب على بناتهن.. على أمل أن تحظى بناتهن بفرصة أخرى.. وحياة أجمل؟! ومازالت البشرية تتواصى على أن ينقل الأمل للأطفال.. وعلى أن يترك التشاؤم لحين مواجهة الحياة.. ألست أنا وأنت امتدادا لكل ذلك؟!أليس الأمل والتفاؤل واليأس والتشاؤم امتداد لتجربة طويلة خبرت بها الحياة وخبرتني، تعلمت من خلال سنوات متتالية أن هناك قائمة طويلة من الأمل الكاذب، كانوا يعلموننا ونحن صغار أن الحياة تقف إلى جانبنا، ولذلك اعتقدنا في لحظة من اللحظات أننا قادرون على تغيير العالم، أخفوا عنا خيبات أملهم.. هل تعلمون كم عدد الأمهات اللاتي يخفين خيبات الحب على بناتهن.. على أمل أن تحظى بناتهن بفرصة أخرى.. وحياة أجمل؟!  ومازالت البشرية تتواصى على أن ينقل الأمل للأطفال.. وعلى أن يترك التشاؤم لحين مواجهة الحياة.. ألست أنا وأنت امتدادا لكل ذلك، نحن لا نتفاءل ولا نتشاءم من فراغ، نحن أبناء تاريخ وسيرة طويلة، تعبنا حتى وصلنا إلى هذه اللحظة، فكيف تريدني أن أنسى ذاكرتي وأعيش اللحظة.لكن من ناحية ثانية، أنا ما عليه الآن ولست تاريخا كاملا، انظر إلى صورك حين كنت طفلا، انظر إليك في كل مراحلك، حاول أن تتذكر فيم كنت تفكر، كيف كنت تنظر إلى الحياة، وكيف تتمنى أن تكون، إن هذا الذي في الصورة ليس هو أنت الآن، إنه شخص آخر لم يعد موجودا.. أنت الآن هو ما أنت عليه.. إذا أردت أن تعيش الحياة فعليك أن تنفصل عن ماضيك، فتجاربنا كمسودة أولى كتبها روائي لقصته، ولم يعد بإمكانه التعديل.نحن نعلم أنك لو مررت بتجارب أخرى لكنت شخصا آخر، فكيف تسمح لتلك الأحداث بتقييدك.. أعلم أنك ستقول إنه ليس بإمكان الإنسان إلا أن يكون امتدادا لتجربته.. هذا صحيح.. لكنك قادر أن تكون على وعي به، وأن تتخذ منه مسافة تخلصك من قيده وتحميك من أسره، دائما ما يلفت انتباهي قوله تعالى عن أصحاب الجنة «لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، الإنسان يخاف مما هو قادم، ويحزن على شيء مضى، والسعادة لا تتحقق إلا بالتخلص من الحزن والخوف، من الماضي والمستقبل، أن تعيش اللحظة يعني أن تكون حاضرا بها، وأن لا تدع الماضي والمستقبل يأسرك.هل بالإمكان أن يكون الإنسان باعتبار ما سيكون، الماضي سيناريو واحد من ممكنات الحياة المتعددة واللانهائية التي كان ممكنا أن نعيشها، وشخصياتنا متعددة -نظريا- بتعدد هذه الممكنات.. مجرد تفكيرك في الزمان والمكان يجعلك تكتشف عدد الممكنات اللانهائية لشخصيتك، لو أنك ولدت في زمن آخر ومكان آخر لكنت شخصا لا تكاد تعرفه.. ولست أدري هل ستتقبل نفسك أم لا.. كم يصعب أو بالأحرى يستحيل تخيل الإنسان بلا ثقافة تصبغه بصبغتها.. ماذا لو تخلصنا من كل هذا ونظرنا إلى أنفسنا باعتبار ما سنكون.. باعتبار الممكنات التي قد نكون عليها في المستقبل.. هذه النظرة تحمل الكثير من التفاؤل، فمهما كنا فاشلين الآن، مهما كنا منكسرين منهزمين، مازالت الممكنات أمامنا، التاريخ يثبت وسير الناس وتجاربهم، أن من ضمن ممكناتنا أن نكون سعداء مهما كنا تعيسين، وأن نكون ناجحين مهما كنا فاشلين، وأن نكون خيرين مهما كان الشر يهيمن علينا.. لكني أحيانا أشعر أنها نظرة تحمل تشاؤما من جانب آخر، فأنا لا أفضل أن أنظر إلى الأطفال باعتبار ما سيكونون، ليس في الوجود شيء مثل براءة الطفولة، إن مجرد تخيل الطفل وقد صار كبيرا تنزع عنه تلك الحالة الطهورية التي أفضل أن أراه عليها.أعرف أن الطائفية والعنصرية كامنة في كثير من المجتمعات، لكني لا أود أن أفكر في المستقبل.. أراهم يبتسمون لبعضهم اليوم ويتصافحون، وأخشى من يوم لا يردعهم فيه نظام، فيتحولون لوحوش تنهش بعضهم.. هنا التشاؤم يغلبني.. وأفضل أن لا أراهم باعتبار ما سيكونون عليه.في الحكم على الآخرين أرى أن التخلص من الحكم هو الأسلم والأطهر، هم كما يبدون عليه الآن، وحين يخفقون ربما سأنظر إلى ممكناتهم، وحين يكونون أطفالا سأنسى ما سيصبحون عليه غدا، ليس لشيء إلا لأني بحاجة إلى الأمل لأعيش، والأمل حالة لا عقلانية ولا منطقية، فالمنطق يثبت أن الإنسان تاريخيا وواقعيا يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ووسط هذا الفساد والدماء توجد دائرة خاصة من المقربين يحبوننا ونحبهم، يجعلون الحياة أجمل.