د. قيس المبارك

ظاهرة اللقطاء

إن الله حين خلق الإنسان فطره على الخير، فكلُّ معنى من المعاني الحسنة تجده محبَّبا إلى النفوس ومألوفاً لها، وكلُّ خُلقٍ ذميم تنفر منه النفوس وتَعافُه، فجاءت الشريعة الإسلامية لتغذِّي في الإنسان فطرته، ومن ذلك أنها جعلت الباب الذي يصل الرجلَ بالمرأة هو باب الزواج، وهو التواصل الذي يتوافق مع الفطرة، فميَّزَتْ عقد الزوجية بدرَجةٍ عن سائر العقود، فقد جعلتْهُ ميثاقا غليظاً، قال تعالى (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا)، فالملاحَظ أنَّ كلَّ عقدٍ وميثاقٍ له عِظَمٌ،النفقة على اللقيط لا تجب على مَن التقطه إلا في حال الخوف عليه من الضياع والهلاك، ثم جعلت الشريعةُ أحقَّ الناس برعايته وتربيته هو الذي التقطه، يربيه كما يربي أولادهأما الزواج فله عِظمٌ أشدُّ من غيره وأخطر، وما هذا إلا لأنه السبيل الوحيد الذي تقبله الطباع وتنفر من السبل الأخرى، ولشناعة السُّبل الأخرى سمَّاها الله تعالى فاحشةً «وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً» وذلك لِبُعدها عن الفطرة، وهذا ما يدفع الكثير من النساء إلى التضحية بمن يَلِدْنَهم من الأطفال فراراً من لُحوق العارِ بهنَّ، فقد تتركه في مستشفى الولادة وتفرُّ هاربةً عنه، وقد تتركه في أحد المراكز التجارية أو في أي مرفقٍ آمنٍ، ويشهد العالَم في جميع البلاد، الشرقية منها والغربية، ازدياداً في عدد هؤلاء اللقطاء، فازدياد اللقطاء ظاهرةٌ عالميَّةٌ لا يخلو منها مجتمع، ويشتدُّ ازديادها في المجتمعات التي تبيح الزِّنا، وتتفاوت وسائل الدول والحكومات في علاج الآثار الضارَّة لفاحشة الزِّنا، فبعض البلاد تبيح الإجهاض، وهو قتْلٌ لنفسٍ محترَمة، وفيه تشجيع للوقوع في الزنا، والنصوص الشرعية صريحة في منع الإجهاض، ومنها أن سيدنا عمر -رضي الله عنه- أجَّل الحد على امرأةٍ زنتْ وقال لها: (ارجعي حتى تلدي)، ومن هذه الوسائل أن يُنسب الولد لجدِّه مِن قِبَل أمِّه إنْ عُرفتْ، وهو منافٍ لما أجمع عليه الناس من أن الولد يُنسب لأبيه، والنَّسب لا يوهب ولا يباع، ومن الناس مَن يرى أنهم ينسبون لمن زنى بوالدتهم، وهذا باطلٌ لأن العلماء أجمعوا على أن ولد الزنا لا يُلحق بالزاني، ففي الحديث (الولَدُ للفراش) ومن الناس من يرى أن ينسب إلى أبٍ مجهول، فيقال له: ابن عبدالرحمن أو ابن عبدالله، وهو من باب انتساب الرجل لغير أبيه، والأحاديث في المنع من هذا كثيرة، وهو كذلك شهادة زور وكذبٌ وتبييض للأنساب، بنسبة الأب إلى غير أبيه، وهو أخطر من تبييض الأموال، فضلا عن أن اللقيط عندما يكبر سيسأل عن الأب المجهول الذي نُسب إليه، وسيُفاجأ غالبا بأنه ليس له أب شرعيُّ، وهكذا يتعذَّر على المجتمعات أن تجد وسيلةً تدمج هؤلاء اللقطاء بالمجتمع، فجاءتْ شريعة الله بقوانين آدابٍ هي خيرُ علاج لهذه الظاهرة المعيبة في المجتمع، فقطعَتْ السُّبل المفضية إلى وجودهم بمنع الزنا، بل منعَت الاقتراب منه، ثم منعَتْ الإساءة إليهم، فحرَّمَت الممارسات المعيبة التي تُعمَل سرَّاً كالإجهاض والإسقاط لهم من بطون أمَّهاتهم، ثم فرَضتْ على المجتمع أن يأخذهم، ففرضُ عين على كلِّ مَن وجد لقيطاً أن يأخذه ولا يتركه إن كان في موضعٍ يعرِّضه للهلاك، وطلبتْ من مُلتَقِطِه أن يُشهِدَ عليه، لئلا يدَّعي بنوَّته أحدٌ في المستقبل، ثم فرضت كفالته ورعايته والنفقة عليه إلى أن يبلغ مَبلغ الرجال، وهذا حقٌّ له يُصرف من مال الدولة، فإن تعذَّر ذلك صارت النفقة واجبة على مَن التقطه، قال الإمام مالك: (من التقط لقيطا فعليه نفقته حتى يبلغ ويَستَغني، وليس له أن يطرُدَه) وقد وجد رجلٌ من بني سليم لقيطاً فجاء به إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له سيدنا عمر: ما حملك على أَخْذ هذه النَّسمة؟ فقال الرجل: وجدتُها ضائعةً فأخَذْتُها، فقال له عمر: (اذهب فهو حرٌّ، وعلينا نفقته) فالنفقة على اللقيط لا تجب على مَن التقطه إلا في حال الخوف عليه من الضياع والهلاك، ثم جعلت الشريعةُ أحقَّ الناس برعايته وتربيته هو الذي التقطه، يربيه كما يربي أولاده، ويعلِّمه ويهذِّب أخلاقه، فينشأ في بيتٍ لا في مأوى، فنشأتُه في أسرة أصلح لحاله، وأبعد عن الأضرار النفسيَّة التي قد تصيب الذي يتربى في دارٍ للقطاء، أسأل الله أن يحمينا من أمثال هذه الظاهرة.