د. فالح العجمي

اللي ما يدري يقول عدس

هل طرحتم سؤالاً جدلياً على أنفسكم يتعلق بمزاحمة الحرية الشخصية (أو الخصوصية، مع ما لهذه المفردة من أبعاد في الثقافة السعودية) لأمن الناس العام، وتعقب التأثيرات التي قد تلحق به الضرر؟ بل هل يدرك كل منا حقوقه في حرية شخصية، لا يتعدى عليها الآخرون دون سبب مؤيد بأنظمة واضحة، أو بحق التدخل العرفي؟ هذه القضية الجدلية فاضت بها وسائل الإعلام الأمريكية في الآونة الأخيرة بعد أن تسربت معلومات أن أجهزة أمنية، أو محسوبة عليها، تلاحق البيانات الشخصية عن طريق التنصت على الهواتف أو البريد الالكتروني، أو سجلات مدنية، وغيرها من المصادر. هاجت الناس، لأنها تظن أن الأجهزة الرسمية، التي يدفع لها المواطن الضرائب من جيبه، لكي تقوم بحمايته، وتسعى إلى راحته وسعادته، أصبحت مصدر قلق وخوف من أن تصلها معلومات شخصية عنه؛ ليطلع عليها كل من له برامج وأجندات قد يكون ظاهرها حماية الأمن العام، لكنها انتهاكات لخصوصيته، وربما يتلاعب بها الآخرون.غريبة كانت تلك الأسئلة؛ وإن كان الأمر يتعلق بمؤسسة «سمة» المسؤولة عن مديونية بطاقات الائتمان، فما الذي يضمن ألا تستخدمها البنوك في التجسس على عملائها، ومعرفة البنوك الأخرى المنافسة، التي يتعاملون معها. وهي أمور - بالتأكيد - ليست في مصلحة العميل، ولا بد أن تصدر فيها تشريعات تبيّن ما يحق للبنك فعله، وما يعد تعدياً على حقوق عملائه وخصوصية شؤونهمكانت النسب من المستطلعة آراؤهم في القضية، التي نشرتها مجلة التايم، أضعف مما توقعت في رفض تلك الإجراءات الحكومية إزاء حرية الناس وحقوقهم في الخصوصية التامة. وقد يكون لفترة الحرب على الإرهاب التي قضى فيها الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش فترته الثانية على وجه الخصوص دور في هذا التسامح عند الأمريكيين قياساً على نظرائهم على ضفة الأطلسي الأخرى؛ حيث يرى الأوروبيون ذلك الأمر من موبقات السياسة. وقد كان أحد المبشرين بوصول مؤسسات السلطة إلى هذا المستوى من التعقب، والتعرف على تحركات المواطنين، ومواضع قوتهم وضعفهم، وحركة أموالهم، بل وميولهم في الطعام والجنس والسفر والترفيه؛ هو الروائي الانجليزي جورج أورويل في عمله الذائع الصيت «The Big Brother is watching you»، وطبعاً كان يقصد بالأخ الأكبر السلطة، التي تدعي دائماً معرفتها بمصلحة المواطن أكثر من نفسه، فلهذا هي لا تتخذ من الإجراءات - من وجهة نظرها - إلا ما يصب في مصلحته، حتى وإن لم يدرك ذلك. شعرت بهذا التتبع، وأنا أمد جواز سفري إلى موظفة خطوط طيران حجزت عليها جزءاً من الرحلة في تذكرة مستقلة ومشتراة من بلد آخر غير التذكرة التي اشتريتها من السعودية وعلى خطوط طيران أخرى. فقالت لي: ومتى ستغادر من كوالالمبور إلى الرياض؟ فقلت لها بدهشة: وكيف عرفت أنني سأغادر كوالالمبور إلى الرياض أو غيرها ؟ فهي ليست في التذكرة التي أستخدمها الآن في هذه الرحلة ذهاباً وإياباً. ضحكت، وكأنها تريد طمأنتي أنها ليست ساحرة؛ وقالت: إن الأنظمة الأمريكية، وكل خطوط الطيران التي تتعامل معها ملزمة بإدخال كل حركة سفر قادمة لأي راكب، لتعرف الأجهزة المعنية في كل بلد إلى أين يتجه الراكب في وجهته النهائية، أو من أين كان قادماً قبل محطته التي وصل منها. قلت: إذاً اقتربت رؤيتك يا أورويل من التحقق. وكان قد طلب مني أحد البنوك تحديث بيانات الحساب والبطاقات التي استخدمها؛ وأحياناً تكون رسالة روتينية، لكنها في مرات أخرى تكون ضرورية لعدم إيقاف الحساب. وعندما زرت البنك هذه المرة، أعطاني الموظف نموذجاً لتعبئته؛ وكان من ضمن الخانات اللازمة: ما الحسابات التي لديك في بنوك أخرى؟ وما نوع هذه الحسابات، وهل أخذت منها بطاقات ائتمانية؟ غريبة كانت تلك الأسئلة؛ وإن كان الأمر يتعلق بمؤسسة «سمة» المسؤولة عن مديونية بطاقات الائتمان، فما الذي يضمن ألا تستخدمها البنوك في التجسس على عملائها، ومعرفة البنوك الأخرى المنافسة، التي يتعاملون معها. وهي أمور - بالتأكيد - ليست في مصلحة العميل، ولا بد أن تصدر فيها تشريعات تبيّن ما يحق للبنك فعله، وما يعد تعدياً على حقوق عملائه وخصوصية شؤونهم. وعودة إلى ما تحدثنا عنه في بداية الموضوع من اهتمام وسائل الإعلام الأمريكية بهذه القضية، ومقارنة بالوضع لدينا: هل تأخذ وسائل إعلامنا العربية آراء المواطنين في استطلاعات صحفية، أم ان آراءهم غير ذات أهمية؟ بل هل يملك العرب فلسفة خاصة في هذا الشأن، أم هم في هذه القضية كغيرها من القضايا يخلطون بين الأمر القائم، والوضع المفترض، مع كل من الجائز والحرام والمعيب .. أو على رأي المثل: اللي يدري يدري؛ واللي ما يدري يقول عدس !.