د. أمل عبدالله الطعيمي

يا ليل الصب متى غده

في كل تعامل لنا مع كفيف يبهرنا بقدرات متعددة ليس فقط في قدرته على خدمة ذاته في كثير من الأمور ولكن في توقفه عند تفاصيل دقيقة في تعامله مع الآخرين حتى انك قد تتساءل : هل هذا فعلاً لا يبصر ؟!

 كيف يعرف أني أتحدث اليه وأنا أدير له ظهري ؟ كيف يعرف أني كنت واقفاً ؟ كثير من الأسئلة نبحث عن إجابات لها ونجدها عندما نتعامل معهم عن قرب ونرى كيف يستخدمون حاسة السمع بشكل لافت لا يعرفه المبصرون فهو يحدد قربك منه وطريقة وقوفك أو جلوسك من صوت أنفاسك. كنت أتحدث يوماً مع طفلة كفيفة لم تتجاوز العاشرة من العمر وكنا يومها في قاعة عمل وقيل لنا ان رجلاً سيدخل ليقوم بعمل ما.

كثير منا لا يحسن الحكم على كفيف البصر، لأنه يفوقه في الاستفادة القصوى من أعضائه. أما المبصر فهو باعتماده على البصر يعطل الكثير من قدرات الأعضاء الأخرى، بل ويعطل بعض ما يمكن أن ينبئه به ضميره كما قال الشاعر وهو يعني إحساسه وروحه التي تبحث عن الجمال ليس جمال الخارج فقط، بل جمال الروح التي تحس بلا عينين ولا أذنينفجأة وجدت الصغيرة تقول لي: أنت مثل فلانة لا تغطين وجهك. أبهرتني ملاحظتها الدقيقة التي لو حاولنا نحن أن نحاكيها فيها لما استطعنا أن نفرق بين صوت يأتي من خلف نقاب وصوت لا حائل بينه وبين أذن من يستمع، ومثل هذه الصغيرة كان الأكفاء يثيرون الأسئلة في أشعارهم عندما يصفون شيئاً ويبدعون في وصفه من خلال الأذن واليد فيتابعون الأصوات وهي تدلهم على كثير من الأمور ويضعون أيديهم على الأشياء فيتعرفون عليها ويفهمونها ويحفظون تفاصيلها، ومن أشهر أبيات الشعر للمكفوفين قول بشار بن برد : يا قوم أذني لبعض الحي عاشقةوالأذن تعشق قبل العين أحياناقالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم    الأذن كالعين تؤتي القلب ما كاناها هو الرد ببساطة شديدة قدمه لنا الشاعر لينهي تعجبنا من حاله وغيره ممن فقدوا نعمة البصر. فالأذن كفيلة بالوصول للقلب لتقدم له ما يريد عن طريق الإحساس،ويقول شاعر آخر غير معروف ( وقد نسبت الأبيات لبشار أيضاً) :وكاعب قالت  لأترابهايا قوم ما أعجب هذا الضريرهل تعشق العينان ما لا ترىفقلت  والدمع  بعيني غزيرإن كان طرفي لا يرى شخصهافإنها قد صورت في الضميركثير منا لا يحسن الحكم على كفيف البصر، لأنه يفوقه في الاستفادة القصوى من أعضائه. أما المبصر فهو باعتماده على البصر يعطل الكثير من قدرات الأعضاء الأخرى، بل ويعطل بعض ما يمكن أن ينبئه به ضميره كما قال الشاعر وهو يعني إحساسه وروحه التي تبحث عن الجمال ليس جمال الخارج فقط، بل جمال الروح التي تحس بلا عينين ولا أذنين.وفي أبيات أخرى يقول الشاعر موفق الدين العيلاني وهو يعلل حبه إحداهن لمن تعجبوا من ذلك :من أين أرسل للفؤادوأنت لم تنظره  سهماومتـــى رأيت  جــــمالهحتى كساك هواه سقماوالعين  داعية الهوىوبه  تنـــــم  إذا  تنــــمىوبأي    جارحة  وصلتلوصفه     نثراً     ونظمافانظر كيف جاء جوابه على تلك التساؤلات بتعليل بارع غير مسبوق:فأجبت  إني موسويالعشق   إنصاتاً    وفهماأهوى   بجارحة  السماعولا   أرى    ذات   المسمىعشقه الموسوي نسبة إلى موسى (عليه السلام) كليم الله.ومن أجمل قصائد الشعراء المكفوفين قصيدة يا ليل الصب التي نسبت لكثيرين، لكن الأرجح انها للحصري القيرواني وفيها يقول :كلف  بغزال   ذي  هيفخوف  الواشين   يشردهنصبت عيناي له  شركاًفي  النوم   فعز  تصيده..  صنم للفتنة منتصبأهـــــواه   ولا  أتعبـــــدهصاح   والخمر جنى  فمهسكران   اللحظ   معربده ألم يستوفقك هذا الربط الجميل والذكي بين تراخي الصوت وبطء الحديث والنظرة السكرى. لم يقف فقد البصر حائلاً بين الشعراء وخيالهم وإعمال فكرهم فكانت قصائدهم للمبصرين ثراء.