نجيب الزامل

نزهــة فـي سبعة أيام

في هذه الصفحة، نبحر أسبوعيًا مع كاتبنا الرشيق، نجيب الزامل، مستدعيًا يومياته، التي يلخصها لقراء (اليوم) في سبع تجارب ذهنية وفكرية، يثري بها الأفق السياسي والفلسفي والتاريخي والجغرافي والثقافي.إنها تجربة يتحمّلها الزامل وربما نتحمّلها نحن بإسقاطاتها، وتداعياتها وخلفياتها، حتى لا يكون في العقل «شيءٌ من حتى».نحن الآن في العام 218 من الهجرة. وكان طارقو السبيل يرون جندا مدججين بالسلاح، ومعهم رجلان قد صُفـِّدا بالأغلال، والسياط تلتهب مفرقعة على ظهورهم، وتنزّ من كل جلدةٍ دفقةٌ من الدم الحار.. والرجلان لم يُنيبا عن ذكر الله، فقد عمّر الإيمانُ بقلبيهما فلم يعودا يشعران من حلاوة الإيمان بجلديهما ينسلخ من فرط لهيب السياط. واستمر التعذيبُ قاسيا جَلْداً وضربا بالعصي وركلا بالأحذية، وسَحْباً على الطريق. ومن مشقة الطريق وهول آلامه، ومن وحشية التعذيب، انهدَّ أحدهما ووقع صريعاً ومات شهيدا. وبقي الثاني وحده يتحمل من هول الألم ما لا يتحمله بشري، على أنه غائب ٌ تماما عن التعذيب وما حوله فهو في اتصال عميق مع ربه، ثم جاء خبرٌ للجند بأن الحاكم الذي أمر بتعذيب الرجلين قد نُعي، وكان الحاكمُ هو المأمون. فأعيد الرجلُ الباقي على قيد الحياة إلى سجن بغداد. هذا الرجلُ المسلوخُ الجلدِ والنازف الدماء هو الشيخ إمام الفقه والحديث «أحمد بن حنبل»، أختُبر فصبر، وباء الظالمون بإثمهم، وظفر هو بالنجاة والذكر الحسن. وقد سجل في كتابه الموسوعي «المسند» أكبر حصيلةٍ لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وإني أنصح الكُتّاب الشباب الذين يودّون إتقانا جيداً للغة العربية قراءة «المسند» بلغته الجليلة العميقة، وكتابٌ آخر هو «موطأ» مالك. أمّا سبب تعذيب الإمام أحمد بن حنبل فهو مسألة خلق القرآن، وقد أثارها ناسٌ يريدون الجدلَ ومع الجدل الريب بين المسلمين. وأول من أثاره هو المعتزلي «الجعد بن ابراهيم» مدّعياً أن القرآن مخلوقٌ لله تعالى، وتعرفون أنه تبَعَ بدعةَ خلق القرآن نفي صفة الكلام مستندين إلى قول الله تعالى: «وكلّم اللهُ موسى تكليما». ثم جاء المأمون واتخذ رأي المعتزلة هذا في خلق القرآن، وعُذِّب كل من يقول خلاف ذلك، وكان من بينهم أحمد بن حنبل.  وكان الإمامُ الفقيه المحدث بن حنبل يُضرب به المثلُ بالنزاهة حتى أنه – رغم إنصاف المتوكّل له بعد أن ظلمه -المأمونُ والمعتصم- لم يمس طعاما قدمه له ابنه، لأنه علم أن ابنه يقبل عطايا من المتوكل!