د.هاني محمد القحطاني

الكبار دائما يعيشون ويرحلون بصمت

رحم الله المتنبي عندما قال في مرثيته الشهيرة:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبرفزعت فيه بآمالي إلى الكذبحتى إذالم يَدَع ْلصِدْقُهُ أمَلاشرقت بالدمع حتى كاد يشرق بيبمجرد سماع فاجعة وفاة عزيز لديه تراود الانسان لحظات تطول وتقصر،.........لحظات  يحتار الفرد فيها بين أن يصدق الخبر أو يكذبه،............ لحظات يتأرجح فيها الإنسان بين القبول بالحقيقة المرة وبين أمنيات الا تكون الحقيقة حقيقة. هذه ردة فعل طبيعية حيال الفاجعة. وقد تكفل شاعر العرب الأول بالتعبير عمن لم يستطع نظم الشعر بما لم يستطع أحد أن يفوقه بلاغة وتعبيرا في البيتين السابقين.فجعنا  نحن- منسوبي كلية العمارة والتخطيط بجامعة الدمام – طلابا وأساتذة وإداريين في وفاة زميلنا العزيز الدكتور تركي بن هيف ال شويه القحطاني الذي وافته المنية يوم الثلاثاء الماضي.

لكل منا قصته وسيرته مع كل فقيد غال عليه وسيرتي مع الفقيد على مدى ثلاثين عاما لم تبارح هموم وتطلعات طلبة اليوم مهندسي الغد، ومافتئ الهمّ التعليمي والارتقاء بالجانب المهني للمهندسين ممارسة على أرض الواقع يشغل بال الفقيد حتى آخر أيامه.

 ويكفي الفقيد اسمه. لقد كان رحمه الله المعلم الاول لكافة طلبة الكلية وهو يستقبلهم يافعين ليصنع منهم مهندسي المستقبل.يمر على الطلبة عموما في كل الجامعات والمهندسين خصوصا عدد من المعلمين، لكن ذكرى الفقيد لدى طلابه وخريجيه تبقى حية ناصعة تماما كبياض طلته وإشراقته وتبسمه في وجه طلبته وزملائه من يعرف منهم ومن لايعرف.عندما ينذر الفرد حياته في سبيل هدف واحد ويجعل منه محور اهتماماته ويقضي جل وقته من اجله وينجح في مسعاه فهذا بحد ذاته إنجاز. ولكن عندما يبز هذا الفرد أقرانه علما وتفانيا وخدمة بصمت هو إلى السكون أقرب فهذا مستوى آخر من الإنجاز لا يصله إلا القليل النادر. وإذا كان هذا التفاني في العمل بهذا المستوى ليس سوى إرضاء للضمير ومايفرضه تجاه الغير من دون بحث عن حضوة أو مجد أو شهرة،وإذا كان هذا كله ليس سوى صفحة واحدة في السيرة العلمية المبرزة للفقيد فنحن أمام شخصية تعليمية نادرة بالفعل.نحن هنا أمام شخصية أكاديمية فذة تتجاوز في إمكاناتها وقدراتها مجرد التفاني في العمل إرضاء للضمير.لقد كان الفقيد مدرسة في تخصصه شاءت الأقدار أن يعمل بصمت وأن ينتقل إلى بارئه بصمت في عمر مازال قادرا على العطاء الغزير لكنها مشيئة الله التي لاترد.عقولنا الفذة في الجامعات كما هي في أي مجال آخر –تلك التي على شاكلة الفقيد – خامات مهدرة تعيش بصمت، تهمس بصمت وتموت بصمت.لكل منا قصته وسيرته مع كل فقيد غال عليه وسيرتي مع الفقيد على مدى ثلاثين عاما لم تبارح هموم وتطلعات طلبة اليوم مهندسي الغد، ومافتئ الهمّ التعليمي والارتقاء بالجانب المهني للمهندسين ممارسة على أرض الواقع يشغل بال الفقيد حتى آخر أيامه.نحن لا نقدّر قيمة شخصياتنا المتميزة – بل لا نشعر بتميزها أصلا – إلا بعد أن تسلم أرواحها لبارئها. أما آن لهذا القيد أن ينكسر وأما آن لهذا الليل أن ينجلي؟!.أي أبا هيف.. والله إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولكن عزاءنا فيك وعزاء أسرتك وأهلك وذويك هم جحافل المهندسين الذين بنيت فيهم أبجديات الهندسة لبنة لبنة  وهاهم اليوم يبنون أوطانهم لبنة لبنة كما علمتهم أنت معلمهم الأول.هكذا تبنى الأوطان والعقول بصمت.هكذا يرحل الكبار بصمت أيضا.