عادل الحوشان

الكلب

ليس هناك من مخرج سينمائي يبحث عن أجمل من مشهد «كلب» يتجول بين الجثث والشوارع والأبنية المهدّمة بفعل الحرب والرصاص، بينما الدخان يتصاعد من الأجساد والنوافذ.هكذا ترسّخ المشهد البصري في أفلام الحروب والدّمار، الفارق الوحيد هو زاوية المشهد، بينما يبقى «الكلب» هو الفوهة الوحيدة التي تلهث من أجل رائحة الدم والقتلى، الكلب ـ بصفته زائدة دودية للموت ـ ليس بطلا ولا كومبارساً، إنما كلب يجيد اللهاث والركض والاختباء وانتزاع الأكباد.مرةً تأتي الصورة على عينيه تقدحان ببصرهما باتجاه ما تخفيه العدسة، ومرة بجسده كاملاً، مرة تأخذه من الخلف وأخرى من الأمام، المخرج هو الوحيد الذي يرى المشهد قبل اكتمال الجريمة، جريمة الحرب التي يتم تنفيذها لسبب ما حسب السيناريو المعدّ.كلب الشاشات التي يتصاعد منها الدخان والزنازين والدبابات، الكلب الذي رأيتموه بربطة عنق يتفقد الموتى ويلهث وهو لم يفرّق بين ذراع كانت تحمل له الخبز ولا قدم تسعى للحياة ولا كبدٍ ربّت الطرقات ولا قلب يحضن شجرة لتغني للسنوات الطويلة عن النهر.يركض، يلهث، ينظر للزوايا، يلتمّ على قطيع تحت عربة تحترق، يقرفص، ينهش .. إنما يبقى هو المشهد الوحيد الذي من بعده تصبح حياة المدينة والناس خاتمة مروّعة يهشها الذباب ويجتمع عليها الدّود، ويبقى المشهد كاملا للكلب، حيث يوجع أرواح العالم.هذه مشاهد الرعب التي يبثها فينا مخرج يضع النهاية الدموية أمام أبصارنا ليثبت نجاحه بامتياز في جريمته.كم من الكلاب شاهدناها ؟كم من كلب أنقذ المخرج بامتياز منقطع النظير؟تذكروا ألوانها، ألسنتها وبقع الدم في أفواهها، تذكروها وهي تنتزع يد أم، أو رجل عامل محطة بنزين، أو مار في الشارع.تذكروها وهي تسير بجانب دخان الحرائق، استعيدوا كل المشاهد في شاشات أدمغتكم، ستجدونها كلاباً أجادت دورها بكمال لا يمكن قياسه.في كل النهايات «نضغط» أمر الإيقاف في أي لحظة ونتذكر الرجل الذي يقف وراء الكاميرا والعدسات والمعاونين ومنّا من يتذكر قبعته أو كرسيّه ونبدأ في تحليل المشهد، نسيانه أو تذكره، عدد الأصابع التي نبش بها أرواحنا باقتدار فعلاً، ربما نعيد حكاياته عشرات المرات وربما ننساه، لكن تكرار الكلاب أمام الموتى لن يتم محوه أبداً.استعيدوا كل المشاهد التي رأيتموها وجربوا، لابد أن كلباً يقبع في زاوية ما، في مكان قصيّ يلهث حتى الآن، لن تتذكروا شيئاً من لحم الموتى وأذرعهم المقطوعة ربما، ولن تشموا رائحة الحرائق، ربما، لكن الكلب يبقى.الآن بعد أن تستعيدوا ذاكرتكم كلها دون محاولة رجوع واحدة، اضربوا الكلب بعرض الحائط، واقتفوا أثر الكلب الذي رأيتموه قبل قليل.كلب الشاشات التي يتصاعد منها الدخان والزنازين والدبابات، الكلب الذي رأيتموه بربطة عنق يتفقد الموتى ويلهث وهو لم يفرّق بين ذراع كانت تحمل له الخبز ولا قدم تسعى للحياة ولا كبدٍ ربّت الطرقات ولا قلب يحضن شجرة لتغني للسنوات الطويلة عن النهر.