د.عصام عبدالله محمد الخرساني

الإدارة الصحيـة: لماذا لا نسـتوعب الدروس؟!

استهل مقالي طارحاً بعض الأسئلة التي أظن ان القارئ الكريم سيجيب عنها من اول وهلة، لأقدم الدليل على اهمية الإدارة الصحية الفاعلة وهي: هل ميزانية بعض المستشفيات الخاصة اكثر من ميزانية المستشفيات الحكومية التي تماثلها في عدد الأسرة؟؟ طبعاً لا.. فميزانية المستشفى الحكومي اضعاف الخاص، هل المواعيد في هذه المستشفيات الحكومية سواء في العيادات او في اقسام الاشعة اقرب من المواعيد في المستشفيات الخاصة؟؟ طبعاً لا، لماذا لا يوجد في المستشفيات الحكومية سرير دوماً للمريض في الاقسام العادية او في العناية المركزة او حاضنات المواليد ويوجد في المستشفى الخاص؟؟ هل الخدمات المساندة من استقبال وغذاء وكسوة وخدمة وفندقة ونظافة في المستشفى الحكومي أفضل من المستشفى الخاص؟؟ طبعاً لا.. بالرغم من الجيش العرمرم من الموظفين الذين يعملون بالمستشفى الحكومي، حتى الخدمات الطبية التي كنا نفاخر بها في المستشفيات الحكومية اصبحت بعض المستشفيات الخاصة تتفوّق بها علينا.. بلا شك أنه سوء وعدم فاعلية الادارة في القطاع الحكومي وحسن وكفاءة الادارة في القطاع الخاص.. لنرَ ما تم في الاسبوع الماضي ولأول مرة في تاريخ بريطانيا، حيث تم إسناد إدارة تشغيل مستشفى هينشينقبروك العام في مقاطعة كمبريدجشايرالتابع لوزارة الصحة البريطانية الى شركة إدارة و تشغيل تجارية ولمدة عشر سنوات. مستشفى هينشينقبروك يبدو انه كان يعاني من سوء في الإدارة فالشركة التي ستدير المستشفى سوف تدفع ديون المستشفى البالغة 40 مليون جنيه استرليني ومطلوب منها ان تحافظ على الخدمات الطبية الموجودة ويتوقع لها ان تجني ارباحاً سنوية تبلغ 100 مليون جنيه استرليني سنوياً. الرئيس التنفيذي لشركة سيركل القابضة علي بارسا يقول: «نحن نخطط لاستثمار جزء من الارباح لتحسين الخدمة والارباح لن تأتي من أخذ اموال او خدمات من المستشفى بل ستأتي من التخلص من الهدر والتأكد من ان ما سنجنيه سيتم تقاسمه بين الشركة والمستشفى. هذه هي المرة الاولى منذ إنشاء الخدمات الصحية الوطنية ببريطانيا عام 1948 التي يتم اعطاء جميع الخدمات التي يقدّمها المستشفى الى شركة خاصة ويقول ستيفن دَن مدير السياسات في السلطة الصحية المحلية ومهندس الصفقة ان ما تم ليس بداية خصخصة الخدمات الصحية في البلاد بل ان الشركة تقدّم مساعدة في إدارة هذه المنشأة التي تعاني من خسائر متتالية خلال السنوات السابقة والدليل على انها ليست بخصخصة هي ان المستشفى سيبقى من ضمن املاك وزارة الصحة وكذلك العاملون سيبقون تابعين لوزارة الصحة وسيستمر المرضى في تلقي العلاج المجاني. وزارة الصحة البريطانية التي تدير عدداً هائلاً من المستشفيات تقول «ان لديها 20 مستشفى جميعها تعاني من مشاكل مالية مماثلة وان هذه الصفقة مع شركة سيركل القابضة يمكن ان تكون نموذجاً يُحتذى به للمستشفيات الاخرى المتعثرة وسوف نراقب الوضع عن كثب؛ لأنه احد الخيارات المطروحة عندما تعاني المنظمة مالياً حيث ستجلب الشركة إدارة جديدة لترفع من نوعية الخدمات وتضمن استمراريتها». طبعاً ما حصل اثار العديد من النقاشات الحادة في مختلف وسائل الاعلام وعلى الرغم من ان المفاوضات مع عدة شركات قد بدأت قبل سنتين - في عهد حكومة العمال - إلا ان وزير الصحة في حكومة الظل اتهم وزراء الحكومة الذين وافقوا على الصفقة بأنهم يقامرون قماراً غير مقبول بالخدمات الاساسية للمواطنين ولقد هُوجم رئيس مجلس الوزراء السيد ديفيد كمرون في مجلس العموم على موافقة الحكومة على هذه الخطوة غير المسبوقة لكنه ردّ قائلاً: «انني اريد ان تكون الخدمات الصحية الوطنية (NHS) عملاً تجارياً ممتازاً لبريطانيا». بريطانيا بنظامها الصحي استطاعت ان تحدّد المستشفيات المتعثرة واعطت الحكومة هذا المستشفى الفرصة منذ عام 2006 لتحسين وضعه والتغلب على مشاكله الا انه لم يستطع الخروج من الخسائر السنوية فاضطرت الحكومة لهذا الحل عوضاً عن إغلاق المستشفى. ماذا عن بلادنا؟! يوجد لدينا 409 مستشفيات قائمة ويوجد لدينا 97 مستشفى تحت الإنشاء وتملك وزارة الصحة نسبة كبيرة من هذه المستشفيات فهل تستطيع وزارة الصحة معرفة وتحديد المستشفيات المتعثرة؟؟ ام حال مستشفياتنا عال العال!! ام اننا لا نعلم من المتعثر ومن يُدار بكفاءة وفاعلية؟؟ ما زلت احتفظ بصورة من خطاب رفعته الى احد وزراء الصحة السابقين اقول فيه «هل يُعقل ان مدير المستشفى لا يعرف ميزانية المستشفى الذي يديره!! وطالبت بأن يقدّم مدير المستشفى ميزانية سنوية للمستشفى الذي يديره وان يُزوّد كل مستشفى بنظام محاسبي يساعد رئيس كل قسم في اعداد ميزانيته لكن ان يبقى الوضع كما هو فهذا وضع غير مقبول، وما زال الوضع في اغلب مستشفياتنا مثلما كان على طمام المرحوم. بلادنا مرّت بتجارب عديدة في تشغيل المستشفيات فهناك التشغيل الكامل وهناك الشامل وهناك الجزئي وهناك التشغيل الذاتي وما زلنا نجرّب.. فمن شركات أجنبية جيدة لكنها تأكل الاخضر واليابس الى شركات وطنية بعقود مجزية لكنها كانت سيئة الاداء فتدهورت الخدمات الصحية المقدّمة واهملت صيانة المستشفيات التي تقوم بتشغيلها لأنها بلا حسيب او رقيب واصبحت بعض تلك المستشفيات أثراً بعد عين. البريطانيون شخّصوا الخلل في مستشفياتهم المتعثرة بأن السبب هو سوء الادارة ثم سوء الادارة ثم سوء الادارة.. لقد تعبنا ونحن نقول ان سوء إدارة منشآتنا الصحية هو السبب في تردي خدماتنا الصحية ولكن لا حياة لمن تنادي.. وما زلنا نقول ان عدم تأهيل المديرين – في الغالبية اطباء - في الادارة يقف حائلاً دون ادائهم الأعمال الإدارية بكفاءة بل معظمهم لا يستطيع قراءة الـ Balance sheet والبعض لا يصلح لإدارة قسم صغير، فكيف به يدير منشأة بها الآلاف من الموظفين ولابد لوزارة الصحة ان تضع خطة لتأهيل الإدارات الصحية وتزويدها بالكفاءات الادارية المؤهلة ابتداءً من الإدارات التي تلي وزير الصحة مباشرة ونزولاً الى ادارة المركز الصحي الأولى في الحي وبلا استثناء، ولو كنت مكان وزير الصحة لتعاقدت مع شركة استشارات ادارية للقيام بهذه المهمة ليكون التأهيل والخبرة هما الميزان وليس الولاء للمسؤول زيد او عبيد او لتنفيع الأصحاب والأحباب.. هذا اذا أردنا مصلحة بلدنا وبالله التوفيق.