صحيفة اليوم

رثاء.. القيصرية

صلاح بن عبدالله بن هندي أديب تعشق الأدب منذ نعومة أظفاره فكانت له مراسلات ومطارحات شعرية مع بعض أدباء وشعراء المملكة.. كما كان له اهتمام كبير بمعالجة الكثير من الأوضاع الاجتماعية التي كان يعايشها.وقد سبق لي أن قرأت له رسالة بعث بها إلى زميله الأديب عبدالله العويد كتبها بأسلوب مسجوع على طريقة المقامات وسوف أعود اليها بعد المرور ببعض المقطوعات الشعرية حيث نقف معه على حال عين الحارة (العين المعروفة بالمبرز) حيث يقدم لنا صورة شعرية لا تقل روعة عن نقش الرسام بريشته:حرارة الشوق ضجت في الأنابيبفأسبلتها دموعا كالشآبيببكت عقوقا من الأبناء في كبرفنفست بالبكا عن كل أنبوبوصيرت صوتها المبحوح أغنيةشجية اللحن تشكو هجر محبوببالأمس كانت بعين الحب ترمقهمفتصرف الكل عن عشق الرعابيبيهدهد الماء فيها طيف أمنيةطغى هواها على الشبان والشيبيحفها الصخر كالهيمان من ولهوالخصر منها تثنى بعد في طيبفي هدأة الليل يبدو البدر مؤتلقابصفحة الماء يجلوهم مكروبيغرد الطير نشوانا على فننيميد كالعمر بين السعد والحوبيؤمها الناس في الأعياد تحسبهاخلية النحل حفت باليعاسيبيأتون شعثا فتبكي من تكلفهموتغسل الجسم من رأس لعرقوبفيرجعون نجوما في تألقهاتضيء ليلا فداها بالكواكيبلكم لهونا مع الأصحاب في صغروماؤها العذب معشوقي ومشروبيفلا البريص ولا العاصي ولا بردىتروي صدانا ولا نيل الأعاجيبهي الحساء جنان في مناقبهاتسبي النواظر من تحت الحواجيبوالشاعر صلاح.. متعصب أشد التعصب للشعر العربي الفصيح ولا يرضى أبدا بأية مقالة حول هذا الموضوع:"أقلي اللوم عاذل" واستريحيفلن أعدو عن الشعر الفصيحولن أرمي العروض بنبل قوسيليشفى صاحب الشعر الكسيحسأحمي عرض قافيتي بحديوأضرب هامة الغر المشيحعشقت الشعر حتى قيل عنيصريع الشعر، لا الوجه الصبيحجعلت من الأصالة نسج شعريوطرزت القصائد بالوضوحأبي "الصلتان" والأقوام تدريمن الصلتان في الشعر الصريحومن "ابن المقرب" حين ينضيحسام الشعر كالبرق المليحأيهجوني على سمع البراياعديم الذوق بالشعر القبيح؟أما يدري بأني لو هجوتجعلت له الهجا الحد الضريحأما يدري بأن الشعر نبضوخير النبض من قلب صحيح؟وهو مواطن يعيش مع المواطنين ويهتم باهتماماتهم ويتأثر لما يصيبهم.. لذا نراه يبكي بحرقة عندما بلغه نبأ حريق (القيصرية) وهي السوق الشعبي المركزي بالهفوف فيهتف:سحب الكآبة في سمائي أرعدتفانثال منها وابل الأشجانالهم في قلبي وبين جوانحيوعل شفاهي دهشة الحيرانفوقت يا كف الهموم لخافقيسهم المرارة فاستباح جنانيلما دهتك القيصرية غارةفرسانها هم السن النيرانأحسست أن مشاعري وعواطفيمثل اللهيب تمور في شريانيثم يصف ما حل بالقيصرية من الدمار:ولقد مررت على رهيب حطامهافإذا السقوف بأسفل الجدرانيا نار ما أحرقت إلا أكبداحرى تقطعها يد الحرمانفهي الشهيدة إن أردت عزاءنافلندعها بشهيدة البنيانفجع الجميع بها وإني مثلهملكنني قد فقتهم ببيانيويجدر بي أن أشير الى بعض مقاطع من تلك المقالة النثرية التي جاء فيها:أرق على أرق ومثلي يأرقوجوى يزيد وعبرة تترقرقلقد دهاني من الهم والقلق، ما جعلني أخلط بين الليل والفلق، حتى عزمت على هجر الورى، وأعيش مثل الشنفري، صعلوكا بين الصعاليك، أو عبدا عند المماليك:أبا منذر أفنيت فاستبق بعضناحنانيك بعض الشر أهون من بعضلقد لاحقني الهم في كل مكان، فكنت كالنابغة يوم أن فر من تميم فلم تغنه رحابة البلدان فما كان منه إلا أن قال رغما عنه:فإنك كالليل الذي هو مدركيوإن خلت أن المنتأى عنك واسعويمكننا قبل أن نودع هذا الشاعر أن نقف معه عند ذكرى مجيدة هي مرور عشرين عاما على تولي خادم الحرمين الشريفين مقاليد الحكم حيث قال:لم يعرف الغدر لي دربا ولا نفقاظل الوفاء لقلبي الروح والرمقارسمت في لوحة الأشواق عاطفتيالصدق والحب في ألوانها اعتنقاولدت في وحشة الأحزان، يؤنسنيدمع العيون الذي قد ألهب الحدقاتفرد الهم بالأفكار يأسرهالو فر منها أسير، بالأسى رشقاأطلقت من صوتي المبحوح قافيةتترجم الحزن في جنبي والحرقاأنا الذي أنشد الأشعار تعزيةفيقرأ الناس فيها الهم والأرقالكنني اليوم أشدو منتشيافي روضة "الفهد" أجني الحسن والعبقايا خادم الحرمين، الشوق ألهمنيفهاك شعري ميثاقا ومعتنقاأبايع "الفهد" في أمن وفي دعةوألثم الراية الخضراء معتنقاعشرون عاما وللتاريخ جلجلةيسطر المجد، يفني الحبر والورقاعشرون عاما أمد الله موجتهاليغمر الماء منها، الساحل الحنقاعشرون عاما كأسراب القطا نفرتمن ساحة الدهر، لا خوفا ولا فرقاإن صلاح بن هندي يملك ثروة لغوية ومقدرة على التعبير بأسلوب عربي صاف مشرق البيان لا لبس فيه ولا إبهام ومن حقه أن ينضم إلى قافلة أدباء وأديبات الخليج العربي.