صحيفة اليوم

ثمار التنويع: توسع القطاع الخاص يخرج اقتصادنا من الانكماش في العام 2009

د. إحسان علي بوحليقة - اقتصادي سعوديلقد ختم الملك بيان الميزانية بخاتمه الذي كتب عليه: الحرص على عدم إعاقة المشاريع، وتحميل المسئولية للوزير المختص في حال حدوث تقصير. ورغم ضخامة الإنفاق لأعوام مضت، والمستوى غير المسبوق للإنفاق في العام 2010، فإن مبادرات الملك وإصلاحاته تتجاوز كل ذلك، فكم من صاحب حق سيستفيد من إعادة هيكلة المحاكم؟ وكم من متطلع لإمتلاك منزل سيستفيد من منظومة الرهن العقاري المتوقع صدورها قريباً؟ وكم من أسرة ستستفيد مع تمكين المرأة؟ وكم من مواطن شعر بمسحة حانية لوجود منظومة ناشئة لرعاية حقوق الإنسان في البلاد؟ وكم من مواطن شعر بأن كلمات الملك ستنصفه من كل متاجر بمصالح الشعب عندما طفحت شوارع جدة؟ إذا، الأمر لايبدأ بما يرصد في الموازنة، رغم أهمية الإنفاق الحكومي في وقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية. إذ ليس من شك أن توجهات الملك الإصلاحية المتواصلة ساهمت بما ينافس ما ينفق من مال.وتاريخياً، فقد بقيت الميزانية العامة السعودية على مدى العقود الأربعة الماضية شحنة تنموية واضحة ترتكز إلى خطط خمسية متتابعة، رغم أن تنفيذ البرنامج التنموي تأثر سلباً وإيجاباً بأوضاع الخزانة العامة وبالظروف الإقليمية المحيطة. وفي المرحلة الراهنة وبمؤازرة فائض تراكمي تجاوز 1350 مليار ريال حققته الخزانة على مدى السنوات من 2003. وعليه، فإن الإنفاق العام سعى للمواءمة بين عدة أهداف: • رفع مستوى معيشة الفرد، • الحفاظ على النمو الاقتصادي بزيادة سعة الاقتصاد عبر الاستثمار في محركات التنمية، • سداد مستحقات الماضي من دين، • محاولة تحييد تراجع إيرادات النفط في حال حدوثها عبر بناء احتياطي للدولة. ولعل من المفيد بيانه أن إنجاز الهدفين الأخيرين قد استفاد من فائض الميزانية، حيث انخفض الدين العام (حسب البيانات الرسمية) إلى 267 مليار ريال نهاية العام 2007، وإلى 237 مليار ريال في العام 2008وفيما يخص بناء الاحتياطي العام فقد وصل إلى 200 مليار، حيث خصصت 100 مليار من فائض ميزانية 2006، ومئة أخرى من فائض ميزانية العام 2007.أما فيما يتعلق بالهدف الثاني (الارتقاء بسعة الاقتصاد) فمع صدور ميزانية العام 2008 نجد أن الإنفاق تضاعف تقريبا خلال خمس سنوات؛ من 250 مليار ريال في العام 2003 إلى 443 مليار في العام 2007، وارتفع إلى مستوى قياسي جديد في العام 2008، إذ أن الإنفاق للعام 2008 قدر عند 410 مليار وتجاوز ذلك الرقم فعليا بنحو 100 مليار ريال. ومن المناسب الإشارة أن نسبة ماتصاعد من الإنفاق العام تذهب للإنفاق الاستثماري، حيث لامس الخمسين في المائة في موازنة العام 2009.وليس محل جدل أن إنجاز الهدف الأول (رفع مستوى معيشة الفرد) هو هدف محوري تتفرع منه أهداف، بل يمكن القول إنه هو مبرر الإنفاق المتعاظم على التنمية. وبالتأكيد، فإن رفع مستوى معيشة الفرد يشمل التوفير والتحسين المستمر في مستوى الخدمات التي توفر له، وكذلك تعني الفرص التي تتاح له بما فيها فرص التعليم والتدريب والتأهيل والعمل. ومع كل ذلك تعني الحفاظ (على أقل تقدير) والرفع من مستوى دخله. وهنا، لن يفيد كثيرا تقسيم الناتج المحلي الإجمالي على عدد السكان، فالمتوسط الحسابي يبين جزءا أما الجزء الآخر فمن الضروري رصده من خلال دراسات مسحية تشمل مدن وبلدات ومراكز وقرى وهجر وطننا الكبير، للتعرف على التفاوت.. إذ أن هذا هو لب قضية استراتيجية الارتقاء بمستوى معيشة المواطن، وأساس التنمية الحضرية والإقليمية المتوازنة، وجوهر السعي لتحقيق الكفاءة في توزيع ثمرات النمو والتنمية لتصل للمواطن في مقره دون أن يتكلف عبء الارتحال للحواضر الكبيرة ليجد الخدمات وفرص العمل والاستثمار. وهكذا يصبح من المبرر القول: إن هناك ضرورة لإصدار دليل لمؤشرات التنمية البشرية في التجمعات السكانية في السعودية، طلباً للشفافية وحتى يصبح قياس التنمية المتوزانة أمرا ميسورا، وليصبح أمر تقريب الفجوة قابلا للمقارنة عاما بعد عام. وهكذا تصبح الأهداف المعلنة قابلة للقياس مما يمكن متخذ القرار والمهتم من قياس النتائج من رصد الحصيلة وعدم الاكتفاء بحساب الإنفاق.أما الحفاظ على مستوى حقيقي للدخل فيستوجب في أكثر حالاته بساطة المواءمة بين ذلك الدخل والزيادة في مستوى الأسعار، وهذا يعني أن يحصل الموظف في مختلف القطاعات العامة والخاصة على علاوة غلاء وفقا للزيادة في مؤشر الأسعار الذي تصدره مصلحة الاحصاءات العامة والمعلومات السعودية. وتجدر الإشارة في هذا السياق، أن التغير السنوي في مؤشر أسعار المستهلك (CPI) كان قد مكث سنوات في حالة بين حالتين: الانكماش والسبات، حيث انكمش 1.1 بالمائة في عام 2000، وكذلك في العام 2001، ليرتفع بنحو 0.2 بالمائة في 2002، وبنحو 0.6 في 2003، وتراجع إلى 0.3 في العام 2004 وإلى 0.7 في العام 2005.. ثم انطلق من عقاله ليرتفع ارتفاعا ملحوظا بنحو 2.2 بالمائة في العام 2006، وبنحو 4.1 بالمائة في العام 2007، و9.2 بالمائة في العام 2008، ويتوقع ان يتراجع إلى نحو 6 بالمائة هذا العام (2009) ولنحو 4.6 للعام القادم 2010ومفيد هنا، ونحن في السنة الثالثة والأخيرة من إضافة بدل غلاء معيشة لرواتب موظفي الدولة.. من المفيد تقنين بدل غلاء المعيشة ليصبح بدلاً راتباً يحدد قيمته متوسط نمو الاسعار في السنة السابقة. اما افتراض انه هذه هي السنة الثالثة والأخيرة وأن البلاد بحاجة إلى موجة غلاء عارم حتى يعاد العمل بها فهذا أمر قد يعوزه التأمل.. لاسيما أن أحد مرتكزات الانفاق والتنمية تتمحور حول الارتقاء بمعيشة الفرد. وكما ندرك جميعاً فإن الغلاء –في حال حدوثه- هو ينخر في قدرة الفرد على الانفاق، وهذا أمر لا يتسق مع مطلب التنمية.عاما الأزمة: 2008 و2009ولابد من الإقرار أن العامين هذا والذي سبقه سيحظيا بمكانة خاصة في الذاكرة الاقتصادية، إذ كان تأثير الإرهاصات الاقتصادية حاداً بالفعل، فأخذت الكثير من الدول وحكوماتها وأجهزتها الرقابية والتنظيمية ومنشآت الأعمال بعيداً عن أي تصور، فأخذنا نجد دولاً تبحث عن ذواتها الاقتصادية من جديد. وبلدنا، بالتأكيد، لا يمكن أن يكون خارج المنظومة الدولية، وليس بوسعه أن يفلت تماماً مما حاق بالعالم جراء الأزمة العالمية.. ومع ذلك لابد من الإقرار أن قرار الحكومة كان واضحاً فيما يتعلق بعدد من القضايا الجوهرية ذات الصلة بالأزمة؛ فقد ذهبت السعودية إلى قمة العشرين الأولى التي عقدت في لندن جاهزة: بحقيبة لحفز الاقتصاد عبر ما أعلن عنه خادم الحرمين الشريفين في خطابه هناك من أن الممكة ستطلق برنامجاً تنموياً على مدى خمس سنوات تقدر تكاليفه بنحو 400 مليار دولار، كما أن المملكة عارضت هناك فكرة «تدويل» معالجة الأزمة، واستبسلت في الدفاع عن فكرة أن كل حكومة تتولى أمر بلدها، وسيكون ذلك كافياً إذا ما كان مصحوباً بقدر مناسب من التنسيق بين الدول المؤثرة. وكانت رسالة الحكومة السعودية واضحة بعد ذلك بأيام قليلة عندما أعلنت موازنة تحوي أعلى مستوى من الانفاق منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة، بمصروفات تقديرية قدرها 475 مليار ريال للعام 2009، بزيادة بنحو 16 بالمائة عن الانفاق العام المقدر في العام الفائت.ورغم أن هناك نقاشاً محتدماً حول قضية: «هل تصل هذه الأموال للمواطن؟» بمعنى هل ما ينفق من مال يحقق مستويات أعلى من المعيشة للمواطن السعودي؟ وعلى الرغم من وجاهة السؤال الذي أرجو أن تملك وزارة الاقتصاد والتخطيط الإجابة الرقمية والتحليلية عليه، إلا أن السعي لتحقيق ذلك يمكن تلمسه من خلال نقاط، منها: ارتفاع معدلات إنجاز بعض المنشآت الضرورية التي طال انتظارها وفدح نقصها مثل المدارس، والتي تستلم وزارة التربية والتعليم حالياً ما متوسطه مدرستان. الأمر الآخر إطلاق برامج ترتكز حول تنمية الموارد البشرية المحلية من برامج ابتعاث ومضاعفة عدد الجامعات ثلاث مرات، وإطلاق مجموعة من مشاريع «بناء السعة» بما في ذلك مشاريع البنية التحتية على تنوعها. وهكذا، نجد أننا بحاجة إلى دراسة تحليلية تبين انعكاس الانفاق على مستوى معيشة المواطن تحقيقاً للتنمية المتوازنة التي دعت لها الخطة الخمسية الثامنة بجلاء ووضوح، لكن –ومع ذلك- فإن هناك تطوراً نوعياً في الانفاق الحكومي خلال سنوات الخطة؛ إذ يلاحظ أن الانفاق ارتكز على محاور رئيسية: • الإنفاق على رواتب ومزايا الموظفين الحكوميين، وهذا بند يلتهم ما يزيد عن 180 مليار ريال،• الإنفاق على البنية التحتية والمشاريع ذات الصلة بتنمية الإنسان، وهنا نجد أن الإنفاق الاستثماري أخذ يتصاعد فتضاعف عدة مرات خلال سنوات الخطة، حيث وصل ما رصد للمشاريع في موازنة العام المالي 2009 إلى 225، أي ما يمثل 48 بالمائة، وهذا رقم ملفت مرتفعاً من 165 مليار ريال في العام الذي سبقه (2008) أو ما مثل 41 بالمائة من الإنفاق التقديري لذلك العام، ومع ذلك فمن المقرر أن يرتفع هذا الاستثمار في العام 2010 إلى 260 مليار ريال.وقد تعاملت الحكومة مع الأزمة بأن رفعت الإنفاق بوتيرة عالية، ووجهت جزءاً متزايداً من ذلك الإنفاق إلى المشاريع، وبذلك نحت استراتيجياً نحو الإنفاق الاستثماري. وهذا بالتأكيد إصلاح نوعي من الضروري استمراره، خصوصاً بعد فترة طالت تقلص فيها الإنفاق الاستثماري لمستويات منخفضة اضطرت الحكومة معها إلى إستئجار المدارس واكتظت فيها المستشفيات. وحالياً، وعند مقارنة ما تنفقه الحكومة السعودية استثمارياً مع ما ينفق في العديد من اقتصادات العالم (بما في ذلك مجموعة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) نجد أن المقارنة تتجه في السنوات الأخيرة لصالح السعودية إنطلاقا بسبب كثافة الإنفاق الاستثماري. ولعل من المناسب بيان أن التعامل مع الأزمة جلب مستجدات خدمت دون شك الأجندة المحلية، منها تخفيف الضغوط التضخمية التي كانت مسيطرة على المشهد الاقتصادي-الاجتماعي في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي والتي كانت معالجتها من خلال تقديم الإعانات بأشكال ونكهات متعددة، كما أن الأزمة ساعدت في جلب زرافات من المستثمرين الأجانب، هروباً من الانكماش والكساد الاقتصادي في بلدانهم إلى منطقتنا والتي هي من بين الأكثر «اخضراراً» في العالم، وبالفعل فقد ارتفع ما تستقطبه السعودية من استثمارات أجنبية مباشرة في العام 2008 (أخر عام متاحة بياناته) إلى 38.2 مليار ريال بزيادة تتجاوز 57 بالمائة عن العام 2007. وهذا سيعزز استراتيجية التنوع الاقتصادي وسيوجد فرص عمل للعمالة المحلية كما سيساهم في إيجاد فرص استثمارية لرأس المال المحلي، وكل ذلك سيحسن إنتاجية الاقتصاد المحلي على مستويات متعددة.