سامي الجاسم

كنت برفقة بعض الأصدقاء في زيارة أخ عزيز، شاءت ظروف مرضه بالسكر أن تُبتر كلتا ساقيه.

والحقيقة أنني توقعت أنني سوف أجد شخصًا عاجزًا مكسورًا، يحتاج لكلمات مواساة، وربما مزيدًا من العبارات المؤثرة التي ترفع المعنويات، وتخفف وقع الأمر عليه، لكنني تفاجأت أنني أمام شخص كبير بعزيمته، وروحه الوثابة، وابتسامة عظيمة لا تفارق محياه، فتعلمت منه أن الرجال العظام لا تكسرهم الأزمات، وأن من يعيش بروحه لا بجسده يستطيع الصمود، والبقاء قويًا رغم كل الظروف.

أشفقت على حال الكثير منا، وأيقنت أننا نحن الأصحاء من نحتاج لعبارات المواساة ورفع المعنويات، لأننا غارقون في هامشية مفرطة في ظل عزيمة هؤلاء الكبار، وأننا صغار أمام عزيمة وطموح وحياة رجل يعيش بنصف جسد، ومع ذلك يبتسم، ويتفاءل، ويرى الحياة جميلة.

واسترجعت شكاوى وتباكي من أكرمهم الله بالصحة والعافية، وزادهم في النعم، لكنهم لا يقتنعون، ويرون أنهم لا يملكون شيئًا، وأن الحياة سلبت منهم الكثير، ولم تعطهم ما يرغبون به، رغم وجود الصحة والعافية والبدن السليم، لكنها الدنيا والأنانية التي لا تجعل البشر يقنعون، أو حتى يزهدون فيما يملكون، فهم يريدون التهام كل شيء، دون مراعاة، أو حس، أو حتى ضمير.

إشكالية بعضهم أن الأبواب المفتوحة يرونها دوما مغلقة، وحتى النعم المتعددة والمتكررة في حياتهم يستصغرونها، وكأن الدنيا في أعينهم امتلاك كل شيء، دون أن يكون هناك حضور، أو تفاعل، أو تمازج، أو حتى شكر واقتناع.

لا تجعل نفسك فاقدًا للنعم، جاحدًا لها، ولا تكن من الذين ينتظرون حدوث المصائب ليتعلموا ويتعظوا، اجعل مصائب غيرك تعلمك، وكن حريصًا على أن تكون إيجابيًا في كل مواقفك، فستعلمك الإيجابية العطاء، وحب الحياة، والمشاركة، ونكران الذات، لتنصهر في الجماعة، وتتوحد معهم.

عندما رأيت فاقد القدمين، يعطي ويتعايش، ويمارس يومه، وهو متفائل أن هناك معطيات لغدٍ مشرق ، تعلمت أن أصحاب الأبواق العالية كاذبون حتى في شكواهم، فالحياة تعطي من يعطيها.

تذكرت عزيمة جدي وهو الرجل القوي الجسور، الذي كانت حياته مزيجًا من جهد وتضحية وعمل، رأيته في آخر حياته، يعيش على كرسي متحرك، بعد أن بُترت ساقاه، أتذكر حينها نظراته وردات فعله وأحاديثه، وكيف أنه لم ينكسر ولم يضعف، ومات وهو بنصف جسد، لكنه امتلك العزيمة التي جعلته يبقى كبيرًا وهو بكامل عافيته، رغم أنه بنصف جسد.

لن أقول إلا أن العظماء الحقيقيين ليسوا المنظرين ولا أصحاب الكلمات الرنانة، إنهم أصحاب المواقف الحقيقية، الذين لا تكسر المصائب عزائمهم، ولا يكون الابتلاء حجر عثرة أمام طموحهم، وعطائهم في الحياة.

samialjasim1@