أ. د. هاني القحطاني

ما هو المسجد الأجمل في العالم؟ سؤال بسيط غير أن الإجابة الشافية الوافية عنه ليست كذلك، بل إنها أبعد ما تكون. السبب وراء ذلك هو تحديد مفهوم الجمال بدقة لكي يتم القياس عليه. ونظرا لأن العمارة تقاس بكافة الحواس في التاريخ والجغرافيا ونظرا لكون معدل بناء المساجد حول العالم يتم في كل ساعة وربما أقل من ذلك فإن ذلك يزيد الأمر تعقيدا.

لتبسيط الأمور فإن البناء، أي بناء، هو شكل خارجي يغلف فراغا داخليا، ومن هنا يصبح جمال الشكل الخارجي وخواص الفراغ هما المقياسان الرئيسيان اللذان يحددان دقة الإجابة عن ذلك السؤال. قبل استعراض المساجد لابد من الإشارة إلى جانبين أساسيين. قدسية الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى وعدد من المساجد في معظم أنحاء العالم الإسلامي تجعل هذه المساجد خارج السياق. كما أن التجرية الشخصية والتعلق بالمكان لكل شخص بمسجده تجعل هذا المسجد أيا كان في طول العالم الإسلامي وعرضه الأجمل في نظر صاحبه، وهذا أمر مشروع بالضرورة.

في العمارة ومن حيث الشكل الخارجي يمكن تصنيف المساجد في زمر جغرافية وتاريخية متشابهة. فهناك مساجد الصين (وربما كان مسجد جيان الكبير في شمال غرب الصين الذي كتب القرآن كاملا على جدرانه باللغتين العربية والمحلية) الأشهر في هذه المجموعة. هناك مساجد أواسط آسيا والفضاء الفارسي وربما كان جامع أصفهان هو مثالها الأكبر. تليها غربا المساجد العثمانية في تركيا والبلقان. وتبقى مساجد العرب بأعمدتها وأسقفها الأفقية أكثر من أن تحصى. وفي الصحراء الكبرى تأتي مساجد الطين متوجة بالجامع الكبير في جيني في مالي وهو البناء الطيني الأكبر في العالم في تظاهرة فنية لا حصر لها. وفي شرق أفريقيا تأتي المساجد كمزيج عضوي بين ما هو عربي وأفريقي وهندي. وتبقى الهند التاريخية بكافة أقاليمها الفضاء الأجمل في عمارة المساجد في العالم. أما في الجزر الهندوصينية فإن المساجد هناك المعبر الأوضح عن مناطقية العمارة الإسلامية.

ضمن هذه الجغرافيا الشاسعة وعلى امتداد تاريخ الإسلام ومن حيث الشكل ربما كانت المساجد في الهند هي الأجمل على الإطلاق. وإذا كان لنا أن نسمي مسجدا بعينه فإن جوامعها الكبرى الثلاثة (جامع مدينة فاتح بوسكري المرجع التاريخي لجامع الشيخ زايد، وجامع دلهي، وجامع لاهور) هي الأجمل، ولا ننسى مساجد اللؤلؤة المتناثرة في قلاع الهند. يعود السبب وراء ذلك إلى أشكال القباب الهندية التي تحولت إلى عناصر معمارية فاتنة الجمال، وهل تاج محل وهو البناء الأجمل في العالم إلا قبة مستديرة بيضاء بياض رمزيته الخالدة؟. أما الفراغ تحت هذه المساجد فقد بقي مشابها لأمثاله في مساجد الوطن العربي.

ماذا عن الفراغ وهنا تأتي الإجابة عن السؤال. الجامع الأموي في قرطبة هو حالة خاصة في مفهوم الفراغ ليس في العمارة الإسلامية فقط بل في العالم أجمع. وإذا سلمنا بأن العمارة فراغ وهو شرط لازب، فإن جامع بني أمية في الأندلس هو ضالة السؤال المنشودة.

في جامع بني أمية في قرطبة ونظرا لكثرة أعمدته فإن الفراغ يولد نفسه بنفسه، إنه «ينبجس»، إنه «ينبثق» من خلف كل عمود وعقد مزدوج بامتداد قاعة الصلاة الأكبر في العالم في حينه. تصبح الحركة داخل المسجد توليدا للفراغ تماما كما تفعل أيقونة برامج ويندوز في شاشة الحاسب الآلي التي تنبثق من لا شيء على سطح الشاشة. هذا المفهوم في توليد الفراغ لا يشاطره بناء آخر في الكون، وهو بهذه الخاصية يجعل من الجامع الأموي في قرطبة المسجد الأجمل في التاريخ، وينطبق ذلك على مقصورة الجامع ومحرابه.

ليس هذا فقط، فقد بقي الجامع على مدى ما يقارب اثني عشر قرنا محتفظا بخاصيته تلك. بل إن الخطيئة الكبرى التي ارتكبها تشارلز الخامس ببناء كنيسة في جوفه لم تفقده تلك الخاصية فقد بقي المسجد وباعتراف الاسبان أنفسهم البناء الأجمل في العالم.

وفي هذا الجانب تحديدا يذكر ما فعلته إسبانيا بجامع المسلمين الأجمل بما فعله العثمانيون بكنيسة المسيحيين الأشهر أيا صوفيا في إسطنبول. انظر إلى ذلك تعرف الفرق بين الحضارتين. أستاذ العمارة والفن بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل