مصطفى المهدي

من الأمثلة المأثورة «الحبر الضعيف خيرٌ من الذاكرة القوية»، وهو تذكير لنا بالحرص على التوثيق؛ بوصفه أحد صور تحويل المعرفة الضمنية إلى معرفة صريحة، فهو لا يُجسِّد الممارسة الفردية لإدارة المعرفة فحسب، بل يمتد إلى تجسيد الممارسة الجماعية أيضًا، وهنا يستوقفنا السؤال: هل تمثل إدارة المعرفة تحديًا على المستوى المؤسسي في نطاق مسؤولياتنا؟ ما هو الدور المتوقع من القياديين لمعالجة التحديات المرتبطة بها، وتحويلها إلى فرص للاستقرار المؤسسي والنمو أو تحفيز رأس المال البشري للابتكار، وتحقيق قيمة مضافة من الأنشطة التي حددتها رؤيتنا ورسالتنا وقِيمنا؟

قبل محاولة الإجابة عن السؤال، يجدر بنا أن نضع تصوّرنا لمصطلح إدارة المعرفة التي يمكن تعريفها على أنها هي التقنيات والأدوات والموارد البشرية التي وُظّفت بشكل محدد واضح مركّز منضبط من أجل إدارة استثمار المعرفة ونشرها، وتعميم مشاركتها.

عليه، فإن إدارة المعرفة لا تمثل هدفًا أو غاية لذاتها، ولكنها وسيلة ترتبط بالعوامل اللازمة؛ لصنع القرار واتخاذ القرار المبني على السياق المناسب، والربط الأمثل لمكونات المعرفة – الصريحة والضمنية – والمهارات المستندة على المعرفة والخبرة التي يمتلكها رأس المال البشري من بيانات ومعلومات وبصيرة كامنة.

بقدر الجهود التي تُبذل في التخطيط الإستراتيجي، وصياغة البرامج والمبادرات المتعلقة بتوقعات أعداد ومستويات رأس المال البشري وقدراته القيادية والمهارية والمعرفية المطلوبة، لذلك علينا أن نتنبه إلى أن ما يحمله الحاضر والمستقبل من تحديات وفرص في ظل متغيرات سريعة في الجوانب التقنية وطرق التعلم والتضخم غير مسبوقة في حجم البيانات والمعلومات، يجب أن يواكبها تقدُّم في وعينا وجهودنا؛ لأهمية تأسيس أنظمة إدارة المعرفة التي تمكّن القياديين من إدارة عملية صنع القرار واتخاذه بكفاءة وجودة عالية، وقبل ذلك تجنّب الهزات التي تنتج عن غياب أصحاب الخبرة والمهارات الحرجة لأي سبب من الأسباب، كالتقاعد الطبيعي أو الانتقال لموقع آخر أو الوفاة.

ومن خلال الممارسة والدروس المستفادة، وجدنا أن التقاعد الجماعي- بأعداد كبيرة - الذي ينتج عن موجات التوظيف في سنة واحدة لجيل واحد من العاملين في فترة زمنية سابقة يؤدي إلى فقدان الخبرة والمعرفة الضمنية التي يمتلكها أولئك العاملون المستحقون للتقاعد، وما يتبع ذلك من مخاطر محتملة، وتأثيرات على القدرة على استمرارية الأعمال (Business Continuity) ما لم تكن هناك إستراتيجية وخطط تنفيذية لنقل المعرفة بين أجيال العاملين والتحديات الناتجة عن تقادم التقنية ومبادرات التحوُّل الرقمي المستحدثة التي تتطلب تسهيل البيانات وتيسيرها للوصول إلى المعلومات السليمة في نطاق حوكمة كفء بقيادة رأس مال بشري تتملكه دافعية عالية، وبيئة عمل محفزة تضمن استبقاء الكفاءات والخبرات وتطورها وتمكينها.

ويمكن تلخيص الملامح الرئيسة الممكنة لإستراتيجية فاعلة لإدارة المعرفة في العناصر الآتية:

• الالتزام ببناء المبادرات والبرامج طويلة الأمد ـ بمستهدفات طموحة - التي تركز على تأهيل وتمكين القدرات الوطنية المتخصصة في صناعة ونقل ومشاركة وحفظ المعرفة في كل المجالات، خصوصًا المجالات الحيوية والحرجة لاستمرار الأعمال والنمو والمنافسة والاستدامة.

• تبنّي مبادرات التعلم مدى الحياة في المجتمع ـ من خلال مدن التعلم - والمؤسسات وتوطين المعرفة، ونقل الخبرة بين الأجيال من خلال الأنشطة العامة، والشبكات الاجتماعية العلمية والجمعيات المهنية والمؤتمرات والندوات بصفة مستدامة.

• العمل على زيادة الوعي بأهمية إدارة المعرفة في المجتمع التعليمي والمهني والصناعي؛ لتعزيز إدارة المعرفة في ثقافة المؤسسات من خلال المناهج التعليمية والتدريبية في مراحل مبكرة، قبل الالتحاق بسوق العمل.

• المساهمة في رفع الوعي بأهمية دعم الاستثمارات المؤسسية وريادة الأعمال في مجالات إدارة المعرفة المرتبطة بالتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي.

• تسهيل تبادل أفضل معايير الممارسة ـ على المستويَين الوطني والعالمي - التي يتم تطويرها في مجال إدارة ونقل المعرفة؛ لتعزيز الابتكار وتحقيق القيمة المضافة.

إن تضافر الجهود والتكامل بين القطاعات المختلفة برؤية واضحة ومركّزة ومنضبطة لإدارة المعرفة سيمكّننا من الحد من مخاطر تقادم المعرفة وتسرّب الخبرات والكفاءات والمواهب، وضعف التواصل الفاعل؛ لدعم صناعة واتخاذ القرار.

إدارة المعرفة برؤية واضحة تعني الاستثمار الأمثل لرأس المال البشري، والأصول المعرفية والرأسمالية من أجل النماء والمنافسة والاستدامة، ولنبقى جميعًا في أعلى درجات الأداء والتجدد؛ لمواجهة المخاطر، وإدارة الأزمات بأسلوب استباقي بعون الله.

@MustafaAlmahdi