أ.د. هاني القحطاني

شجاع، كما كان أن يفترض أن يكون عنوان المقال، وهو لإحدى روائع الروائي السوري حنا مينة، وقد تم تصويرها تليفزيونيا في مسلسل فريد قبل ما يقارب من ثلاثة عقود. حديثنا اليوم ليس عن «مفيد الوحش اللي قطع ذنب الجحش». إنه حديث عن شخصية تاريخية ملأت الدنيا، وشغلت الناس في النصف الأول من عقد الثمانينيات من القرن المنصرم.

ميخائيل جورباتشوف، يكفيك من الاسم ذكره، فهو ليس بحاجة للتعريف. فالرجل كان ملء السمع والبصر وعلى كل لسان. رحل الرجل عن عالمنا هذا الأسبوع في صمت. لم يتصدر الأخبار كعادته عندما تربع على عرش السياسة العالمية. فقط في ذيل نشرات الأخبار ورد ذكر وفاته. لقد رحل خلسة، الرجل، الذي صنع تاريخ اليوم، ولم يتم حتى دفنه بطريقة ترقى إلى سمعته وسمعة بلده. فقط اكتفى سليله في الكرملين بالوقوف أمامه، في أحد عنابر المستشفى، الذي فارق الحياة فيه.

للتاريخ منطقه، وللتاريخ أدواته، وللتاريخ رجاله. ميخائيل جورباتشوف، ومن قبله كان كل من قسطنطين تشرينينكو، ويوري أندروبوف، اللذين لم يسمع بهما أحد، ولم يرهما أحد كرئيسين سوفيتين سابقين، ومن قبلهما ليونيد بريجنيف، الذي تربع على عرش الكرملين ثمانية عشر عاما كانوا بيادق في مربع شطرنج لحزب أسس أول دولة من نوعها في التاريخ. دولة جديدة في ظروف نشأتها، وفي طريقة إدارتها وفي السياقات التاريخية، التي مرت بها، وفي الدور الذي لعبته في العالم على مدى قرن كامل، والذي انتهى بسقوطها المدوي لها في بداية التسعينيات.

ويبدو أنه من قدر الدول العظام في التاريخ أن يقيض لها في نهايات أعمارها رجال يؤدون أدورا معدة لهم سلفا في التاريخ. ولنا في سيرة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، والمستعصم آخر خلفاء دولة بني العباس، وكذلك السلطان حميد الدين آخر سلاطين الدولة العثمانية أمثلة حية على ذلك.

عندما أتى جورباتشوف إلى سدة الحكم ورث بناء هرما تعذر على أسلافه ليس محاولة إصلاحه، بل حتى مجرد البدء في عملية الإصلاح تلك. لقد كان الاتحاد السوفيتي يعيش على وقود ثورة 1917 ليس إلا. وبالرغم من الخطط الخمسية المتعاقبة في بناء الدولة والانتصار فيما يسميه الروس الحرب الوطنية الكبرى على ألمانيا النازية، وإنجازاته غير المسبوقة في غزو الفضاء وترسانته العسكرية، التي فاقت الولايات المتحدة في بعض جوانبها، إلا أن ذلك الاتحاد العابر للقوميات كان يدار بالحديد والنار. وفي ضوء سيطرة الحزب الواحد وتمدد هياكله البيروقراطية إلى كل مفصل من مفاصل الدولة أصيبت الدولة بالعطب، وأصبحت أكبر دولة على وجه الأرض مجرد امتداد جغرافي هائل ينتظر تفككه في أية لحظة. في هذا المفصل التاريخي، أتى جورباتشوف لينجز مهمته التاريخية تلك ليس بهدف التفكيك ذاته، ولكن بهدف الإصلاح.

كان الاتحاد السوفيتي ينتظر لحظة تفككه بأي طريقة كانت وتحت أي مسمى كان. أما الطريقة فقد كانت بما أطلق عليه الرجل سياسة «البريسترويكا» وتعني إعادة البناء و«الجلاسنوت» وتعني المصارحة والانكشاف. لقد كانت هاتان الكلمتان هما المفتاح، الذي فتح به الرجل صندوق باندورا على بلده. لقد كان يريدهما الرجل أداتي بناء فتحولتا إلى معولي هدم.

القرن العشرون هو الأكثر دموية واضطرابا وديناميكية في تاريخ البشرية، وفي ثمانيناته كان جورباتشوف في بؤرة أحداثه. ومازال منظر الرجل عائدا من القرم، حيث كان يقضي إجازته عقب الانقلاب الفاشل عليه من المؤسسة العسكرية حيا في ذاكرة التاريخ، تماما كما هو موقف رجل آخر اسمه بوريس يلتسن على ظهر دبابة الانقلاب يقف موقف المتحدي، لتبدأ مسيرة رجل وتنتهي مسيرة آخر.

هل كان رجلا شجاعا لكي نختم به عنوان المقال؟ يبقى ذلك سؤالا مشرعا على كل الإجابات، والتاريخ وحده هو مَن له الفصل في الإجابة عنه.