د. موسى آل هجاد الزهراني

ليس فقط (فيروس كورونا) الذي غير طباع الناس، وكلمة (غير) بتشديد الياء، لأن المقال يظهر في الصحيفة بدون تشكيل رغم تشكيلي إياه!.. بل إننا في زمن تغير فيه كل شيء في سنوات قليلة، حتى أصبحت مشاعر كثير من أهل الزمان أبرد من القطب المتجمد. الأصدقاء مرهفو الإحساس، الذين هم من بقايا الزمن الماضي، الذي يطلقون عليه اسم (زمن الطيبين) يشتكون من جفاف مشاعر أصدقائهم، وبرود العاطفة، يقول أحدهم غاضبا: ألا تلاحظ أن مشاعرنا أصبحت (بلاستيك) لا روح فيها؟! قلت: كيف؟ قال: كتبت مرة رسالة لصديق لي صببت فيها كل مشاعري. قاطعته مازحا: أو صديقة! فازداد غضبه: لا تكن معقدا.. قال: ولم أترك كلمة رقيقة، أو عبارة منمقة إلا كتبتها، فلما انتهيت أعدت قراءتها مرات عديدة حتى أعجبت بنفسي، وظننت أنني الجاحظ!. ثم ضغطت زر الإرسال ووضعت يدا على خد، منتظرا انطباعه العظيم عندما يتمتع بقراءة هذه المشاعر الذهبية الفياضة.. مرت ساعات، حتى يئست، وبينما كنت أصلي، سمعت نغمة رسالة، فكدت أسرع في صلاتي، فلما انتهيت من صلاتي فإذا بالرد يأتيني.. ماذا تتوقع؟! قلت: أكمل.. قال: أرسل لي وردة! تخيل.. تحطمت وتحطمت مشاعري ولغتي وبلاغتي المزعومة.. قلت: هون عليك.

كلامه جعلني أفكر في مشاعر البلاستيك، ألا ترون أن مخترع ما يسمى (الإيموجي) قد أساء أكثر من أن يحسن.. عبارات جاهزة (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) و(أسعد الله صباحكم) و(مساء سعيد للطيبين) والأطم (عيدكم مبارك وكل عام وأنتم بخير).. بل حتى (أحسن الله عزاءكم وغفر لميتكم)! والميت يشمل الذكر والأنثى. والأطم والأعظم (الضحكات المستعارة، والبكاء المستعار، والإعجاب المستعار، والحزن المستعار) كلها (إيموجي).. مشاعر باردة.

العجيب أن صاحبي أمرني بعدم ذكر المتنبي في مقالي القادم، فكأنه نبهني إليه، عندما وصف برود مشاعره في لحظة من لحظات حياته التاريخية بعد هروبه من كافور في مصر:

‌أصخرة ‌أنا ما لي لا تحركني ... هذي المدام ولا هذي الأغاريد؟!

وآخر يشكو ويقول: غبت عن صديقي أكثر من ثلاثة عشر عاما، فلما عدت إليه، لم أتمالك نفسي أن عانقته، وشقت ابتسامتي وجهي، وأخرجت من جعبتي كل ذكرياتي معه وأسمعته إياها، وهو: ‌كجلمود صخر حطه السيل من عل!. فلما سكت أنا تكلم هو: (حياك الله.. لماذا تأخذ من لحيتك؟! غيرتك الأيام)!. لعنت مشاعري التي لا يستأهلها، وكدت ألعن صداقتنا وتذكرت أن اللعن حرام!.

قلت لصديق مقرب في مجلس أدب هادئ، في ليلة من ليالي الشتاء الباردة هذه: ألا تظن أن برود مشاعر (ليلى العامرية صاحبة قيس المجنون) و(عبلة صاحبة عنتر) و(لبنى صاحبة قيس بن ذريح) و(عزة صاحبة كثير) هي التي جعلت مشاعر شعرائهن ملتهبة؟! فأخرجوا لنا أعظم شعر في تاريخ غزل الشعراء؟! هل سمعت أن إحداهن أصيبت بالجنون أو ماتت من الجوى؟! يا أخي، قيس يشكو منها، ويشهد عند الله أنه يحبها وهي أبرد من الثلج:

فأشهد ‌عند ‌الله ‌أني ‌أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا؟!

من برود مشاعرها أصابته بالجنون:

قضى الله بالمعروف منها لغيرنا.. وبالشوق مني والغرام قضى ليا

حتى في صلاته، المسكين ترك القبلة وراءه، وجعلها هي قبلته:

أراني إذا صليت يممت نحوها... بوجهي وإن كان المصلى ورائيا

ضحك صاحبي وقرب مني (منقل الجمر) وقال: تدفأ يا صديقي قبل أن تصاب أنت أيضا ببرود الأطراف فتموت من البرد!..

إلى اللقاء..

mhajjad@gmail.com