أ.د. هاني القحطاني

إنها سنة الله في حكمه، بدءا من الكون الفسيح بمجراته، التي لا تحصى، وبنجومه العملاقة، وأبعاده التي يعجز العقل البشري عن أن يستوعبها، وصولا إلى أدق جزيئات الذرة، ومرورا بكل مخلوقات الله، وبحركة التاريخ البشري، فالحياة ليست سوى عملية بناء وهدم لا تنتهي. تعيش مدن المملكة اليوم مرحلة تاريخية من التنمية العمرانية، بين عمليتي هدم وبناء. والنسيج الحضري لأي مدينة هو نتيجة قرارات تنموية، وتفاعلات اجتماعية واقتصادية طويلة الأمد، على عدة مستويات، وهو في تغير مستمر. هكذا هي بنية المدينة. إنها أشبه بالكائن الحي، تولد وتنمو، لتشب، فتشيب، فتهرم. غير أنه ولأسباب مختلفة تتفاعل عدة مكونات لتشكل أنسجة حضرية لا تتوافق مع رغبات مستخدميها، ولا مع تطلعات مسؤوليها، ولا مع خطط مهندسيها، ويصبح علاجها ضمن الأطر المعرفية والواقعية متعذرا. وهنا وكما يقول المثل «آخر العلاج الكي»، فإن إزالة هذه الأنسجة يصبح أمرا ضروريا للحفاظ على سلامة الجسد. الحديث هنا عن عروس البحر الأحمر: جدة. إنها الآن أشبه بورشة عمل لإزالة ما تراكم على مدى عقود من الزمن، من تشوهات تنموية على مختلف الأصعدة. الكل قد سمع بأحياء غليل، وبترومين، والنزلة اليمانية، والهنداوية، والبلد وغيرها، وما اتصل بها من أحياء كان نصيبها من عوامل الانهيار أكثر من حظوظها في النماء، وكانت دوما بحاجة إلى ما يسميه الأطباء بـ «العمليات الجراحية» لإزالتها. وهكذا كان. جدة ميناء المملكة الأول، والبوابة البحرية للحرمين الشريفين، مدينة ساحلية. وكمعظم مدن العالم، فإن المدن الساحلية تأخذ، أو -على الأقل ما يقتضيه واقع الحال- من البحر وجهة لها. غير أن جدة وعلى مدى عقود قد تصحرت، وأصبح ما يربطها بالبحر ليس سوى موقعها الجغرافي، ومينائها وليس عمران المدينة، ولا ساحاتها، ولا توجهها وخططها التنموية.

وعلى أنقاض ما تم هدمه، هناك من المشاريع، كما تم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يبشر بنهضة عمرانية واعدة، تجعل من جدة ورشة بناء لعقود قادمة بإذن الله لتستعيد المدينة هويتها كمدينة ساحلية، وقد انعكس ذلك في نسيجها العمراني بكل مكوناته وتفاصيله. ومن عروس البحر الأحمر إلى عروس المصايف أبها. فقد تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطعا مصورا لإزالة أحد أكبر الفنادق في المنطقة الجنوبية، في واحد من أجمل المواقع السياحية في المملكة. وبغض النظر عن قرار الإزالة، فإن الفرصة سانحة الآن لكي يتم التعامل مع موقع الفندق وفق رؤية تنموية سياحية بيئية، واقتصادية، شاملة ومستدامة. ولعل موسمية السياحة في عسير وهو ما أدى إلى إغلاق الفندق معظم أيام السنة، هو ما يجب التفكير فيه في هذا الموقع بالذات. فالموقع فريد بكل المقاييس، سواء بوقوعه على سفح واحد من أعلى قمتين في المملكة، أو بإطلالته الفريدة على تهامة عبر مطل يعتبر من ضمن الأجمل في جبال السروات، إلى المساطب الزراعية كقاعدة له، إضافة إلى نادي الطيران الشراعي في الجوار، ناهيك عن الغطاء النباتي والنظام البيئي المحيط به، والجو الممطر معظم فصول العام. إن من شأن التعامل مع موقع بهذه المواصفات أن يجعل من الموقع ذاته ومنطقة عسير والمملكة مطلبا دائما للسياح من داخل المملكة وخارجها ليس فقط خلال الصيف، ولكن على مدار العام. لقد آن الأوان للتعلم من دروس الماضي وبناء مشاريع نوعية، ترتقي إلى طموح الناس ورؤية مسؤولي التنمية، ليكون هذا المشروع خير خلف لخير سلف. ولعل إزالة الطائرة، التي كانت جاثمة على إحدى قمم أم الركب شمال أبها تنبئ بتغير نوعي في التنمية العمرانية وآليات تنفيذها، لترتقي المشاريع القادمة في مشروع السودة، أم في تطوير أبها نحو شعارها الموسوم «قمم وشيم»، فكلاهما يستحق أن يكون اسما على مسمى.

Hanih@iau.edu.sa