شهد بالحداد - الدمام

توقظ العقل من سبات التحولات المتسارعة الذي يفقده القدرة على الاستبصار

العيش كفلاسفة يمنح الوجود معنى وقيمة مهما كانت المخاطر التي تواجهنا

دورها مستمر ودائم لأنها مكون أساسي لا يمكن الاستغناء عنه في الحياة

تسعى لهدم الاعتقادات الزائفة لتقيم حقائق معرفية تقود البشرية إلى حياة أفضل

أكد عدد من المختصين أن احتفاء العالم بيوم الفلسفة الذي يوافق اليوم 18 نوفمبر، من شأنه إبراز مفهومها الصحيح وإزالة ما لحق بهذا المفهوم من لبس، وتصحيح الصورة الذهنية عنها بالكشف عن أهميتها للفرد وللمجتمع، ودورها المهم الذي لعبته منذ أن كانت أما للعلوم من خلال وسائل الإعلام المحلية المختلفة، وأشاروا إلى أنه لحق بها في الثقافة العربية الكثير من الفهم المغلوط والتحريف عن معناها المقصود. وشهدت المملكة مؤخرا انفتاحا واسعا على الفلسفة، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، وذلك عبر إدراجها في المناهج الدراسية أو تخصيص جمعية خاصة بشؤونها، ثم إقامة مؤتمر دولي لمناقشة دعم الفلسفة وتعزيز حضورها.

قيمة التفلسف

قال الكاتب والعضو المؤسس في حلقة الرياض الفلسفية وجمعية الفلسفة، حمد الراشد: تنقسم مجتمعاتنا العربية في نظرتها إلى الفلسفة إلى طرفين، إما لا مبالاة وتهميش لها وتمثل ذلك كلمة «لا تتفلسف»، جهلا بما يدل عليه معنى التفلسف، وإما النظر إلى الفلسفة على أنها تمثل تهديدا للعادات والعقيدة والمصالح، وذلك التطرف بين لا مبالاة من ناحية، وتوجس من ناحية أخرى يعود إلى أسباب عدة، أهمها تراجع التفكير الفلسفي في ثقافتنا العربية منذ قرون خلت، بعد أن كان مؤثرا في حقب ازدهار تاريخية شهدها العرب عندما كانوا منفتحين على العالم.

وأضاف: بما أن الفلسفة فكر خالص، من خلاله يتناول الإنسان ذاته وما يحيط به من إشكالات الكون والوجود، وكل ما له علاقة بقضايا المعرفة والحقيقة عن طريق أدوات ولغة فلسفية تتراوح بين تساؤلات ومنطق وجدل، فإن الفلسفة من هذا المنظور تتميز بطرح قوي ومتوازن يهتم بما يثيره الفكر وفق ثقافة فلسفية ولغة فلسفية بعيدا عن الطرفين اللذين تحدثنا عنهما، ووفقا لذلك فإن المهتمين بالفلسفة في المملكة يحاولون الإسهام في تفكير فلسفي متوازن للفرد والمجتمع، سواء في الحياة عامة أو في المشهد الثقافي، وبالتالي فإن المهم أن نعيد لمنظومة الثقافة تعريفها الحقيقي بإدخال محور الفكر والفلسفة ضمن محاورها، وهو المحور المهم جدا والذي يحتاجه المجتمع الثقافي للتواصل مع العالم، فالثقافة أوسع نطاقا من ضيق الأفق والتحيزات.

وأشار إلى أنه مع أزمة كورونا، حدث تأثر سلبي على التواصل، بحيث أصبح التأمل والانعزال له أولوية على التفاعل والحوار، لكن في ظل تقلص هذه الأزمة وعودة الحياة الاعتيادية، يتطلع المثقف والباحث والمفكر إلى تشكيل جديد لمشهد ثقافي ثري ومتنوع يحترم العقل، مع انتهاج فكر جاد وفلسفة عميقة وحوار راق.

تعميق الحياةويرى العضو المؤسس في جمعية الفلسفة عماد الزهراني، أن الفلسفة ليست تحليقا في الهواء، ولا عزلة عن الحياة الاجتماعية بقدر ما هي تعميق لحياة الفرد والمجتمع على السواء، وتكمن مهمتها في إيقاظها العقل الإنساني الذي قد ينساق في غمرة التحولات المتسارعة نحو سبات عميق يفقد قدرته على الاستبصار والفعل، وعلى المساءلة والمسؤولية والنقد والابتكار، فالعيش كفلاسفة معناه أن الإسهام على نحو خاص في منح المعنى والقيمة للوجود مهما كانت المخاطر التي تواجه البشرية، وذلك على المستوى الفردي بما أن الفرد هو وحدة بناء المجتمع، ومن منطلق انعكاس ما يتأثر به الفرد على مجتمعه.

وأشار إلى أن الفلسفة يمكنها الارتقاء بالمجتمع ككل من خلال كشف مشكلاته وجذب الانتباه إليها، كما أنها تحدد إيديولوجية المجتمع، فسلوك الناس لا يمكن أن يسير عشوائيا، وإنما يقوم على أسس فكرية منظمة، وهي المسؤولة عن تحديد المبادئ التي يسير عليها سلوك المواطنين ونشاط الناس الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والسياسي والقانوني، وعلى مستوى المجتمع العالمي فإن مجموعة من الظروف السابقة والآنية من حروب ومجاعات وأوبئة تدعو إلى ألا يكون رجال الحكم والساسة هم وحدهم المهتمون بالدعوة إلى إقرار السلام، بل ويشاركهم في ذلك رجال الفكر عامة والفلسفة خاصة.

وأكد أن أهمية الفلسفة ودورها المستمر في الحياة سيبقى طالما استمرت الحياة الاجتماعية، كون الفلسفة المكون الأساس لهذه الحياة ولا يمكن الاستغناء عنها، لأنها تمثل الجانب الروحي والعقلي في حياة الإنسان، إلى جانب أنها تهدف إلى بناء نظرة شاملة واقعية للوجود بوجه عام، فهي تسعى بشكل دائم إلى هدم أركان الاعتقادات الزائفة لتقيم حقائق معرفية تقود البشرية إلى عالم أكمل وحياة أفضل.

تسيد المشهد

وحول تأثير جائحة كورونا على الفلسفة، قال: في رأيي أن الجائحة عززت من دور الفلسفة، ولم تكن بمثابة تحد حيّد من الفلسفة أو أضعف دورها، إذ تسيدت الفلسفة المشهد في بعض المواقف التي رافقت الأزمة، وطفت المعضلات الأخلاقية إلى السطح من جديد جراء تفشي الفيروس في إيطاليا، فكان لزاما على الأطباء أن يختاروا النجاة لشخص واحد بين خمسة أو أربعة أشخاص ليوضع على جهاز التنفس الصناعي، كما بادر مجموعة من الفلاسفة حول العالم لمناقشة القضايا الفلسفية المصاحبة للأزمة من خلال مجموعة من المقالات المنشورة على سبيل المثال مقال جوناثان فولر حول الأسئلة الفلسفية خلف معدلات الوفيات في العالم جراء الجائحة، وحتى على المستوى الوطني، فقد بادرت حلقة الرياض الفلسفية في يوم 7 أبريل بتقديم أمسية فلسفية بعنوان «الفلسفة في زمن الكورونا»، كما خصصت مجلة Washingtonian عمودا يجيب فيه فلاسفة الأخلاق في كل عدد عن الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بالجائحة، إذن فالفلسفة ما زالت تمارس دورها الإنساني والاجتماعي لتشتغل بما قد يعصف بالعالم ويهدده، ولتنظم للعلم والعالم أدواره وواجباته.

تصحيح المفهوموعن أهمية الاحتفاء باليوم العالمي للفلسفة في المملكة، يؤكد الزهراني أن الاحتفاء بمثل هذا اليوم من شأنه إبراز مفهومها الصحيح وإزالة ما لحق بهذا المفهوم من لبس، وتصحيح الصورة الذهنية عنها بالكشف عن أهميتها للفرد والمجتمع ودورها المهم الذي لعبته منذ أن كانت أما للعلوم من خلال وسائل الإعلام المحلية المختلفة، خاصة مع ما لحق بها من اللغط في مجتمعنا، إما بتحريفها عن معناها المقصود، أو فهمها فهما أحاديا ضمن سياق واحد لا ثاني ولا ثالث له، ما أضر بالفلسفة والتفلسف في المملكة، إما باتخاذ مواقف سلبية ضدها، أو باستخدامها في مواضع السخرية.

وأضاف: الجدير بالذكر أن جمعية الفلسفة - بصفتي عضوا مؤسسا فيها - تحتفي بهذا اليوم من خلال بعض الفعاليات المتنوعة من لقاءات وندوات حوارية وورش عمل تدريبية، وذلك بمقر جمعية الثقافة والفنون في مدينة الرياض برعاية هيئة الأدب والنشر والترجمة، وأدعو جميع المؤسسات الثقافية والتعليمية إلى الاحتفاء بهذا اليوم الذي تظهر فيه اليونسكو القيمة الدائمة للفلسفة في تطوير الفكر البشري في كل ثقافة وفي كل فرد، وذلك بإقامة وتنظيم الأنشطة المتنوعة، مثل الحوارات الفلسفية والنقاشات والمؤتمرات وحلقات العمل والفعاليات الثقافية والعروض المختلفة، وذلك بمشاركة مربين ومعلمين وطلبة وصحفيين وغيرهم من ممثلي وسائل الإعلام والجمهور العام، بالإضافة إلى دعوة الفلاسفة والعلماء والمثقفين من جميع التخصصات المتصلة بالعلوم الطبيعية والإنسانية.

الشعر والفلسفة

وتحدث الباحث في الفلسفة والشاعر عبدالله الهميلي حول الرابط بين الفلسفة والشعر، فقال: هو الرؤية الجمالية للحياة والوجود بلا شك، الفيلسوف والشاعر كلاهما يعبث بالمفاهيم، الأول «يؤرضنها» والثاني «يشردها»، يطلقها اللاوعي الشعري ويمسكها الوعي الفلسفي، وما بينهما هو ملتقى المخيلة ويفصلهما آلية عمل كل منهما، وعلى الفيلسوف أن يحبس المخيلة ويعيد ضبط انفلاتاتها، أما الشاعر فعليه أن يفتك بذلك الضبط، الفيلسوف سادن المخيلة المتمرد، والشاعر ماردها المحافظ، ولا تثريب إذا قلنا إن الشاعر فيلسوف مضمر والفيلسوف شاعر مضمر كذلك، كما كان الشاعر والفيلسوف مزيجا واحدا، لكن أحدهما بدأ يتذكر المخيلة ويستفهمها، ومنذ ذلك الحين وهما يبحثان عن بعضهما منذ اللحظة الأفلاطونية التي لم تستطع أن تخرج الشعرية من محاوراتها.

وعن أهمية أن يكون الشاعر متفلسفا، أضاف: إذا كان هايدجر يحث الفلاسفة على أن يستلهموا تفلسفهم من الشعراء، فأيضا على الشعراء أن يتورطوا بالرؤية الجمالية أكثر باتجاه المطلق والمجرد الذي استكنهه الفلاسفة بحثا عن المعنى وليس البريق الخلاب.

وأكد أن الجائحة تركت أثرا كبيرا على الفلسفة، إذ عززت الحس الأخلاقي، وأيضا حاولت أن تسهم كغيرها من الحقول في البحث عن بريق أمل تواصلي وعزاء في ظل الجائحة، والحمد لله تم تجاوزها.

ليست تحليقا في الهواء ولا عزلة دائمة بل تعميق لحياة الفرد والمجتمع