سعود القصيبي

تعودنا أن نتحدث عن إرثنا الحضاري لا سيما عن عرب الأزد، وهم الفئة الاثنية، التي كانت تقطن الجزيرة العربية قبل التاريخ المعروف. إلا من المعروف أيضا أنها صفة لأقوام من عهود مضت لا نعرف عنها إلا أقل القليل. وغالبا ما نلجأ إلى كتب تاريخنا باحثين عن كلمة قالها أحدهم أو وصف إلا أن أغلبها يأتي في عهود متأخرة وليس كشاهد حال. وغالبا ما تنتهي تلك الأوصاف والنعوت بأن تلك الأقوام اندثرت بفعل الحروب أو الدخول بجماعات أخرى فلا يعلم بالواقع عنهم شيء سوى أن ربما هناك بواقٍ لهم مَن بتلك الديار اليوم. ونأتي في زمننا الحاضر فنشاهد ما نشاهد من مبانٍ قديمة عمرها حديث نسبيا من ناحية تاريخية، فنعتقد أنها ذلك الجزء المهم أو من كونها هي ذاك التاريخ. ثم ما يلبث أن يأتي باحثون متخصصون من غير الناطقين بالعربية فيروون لنا ما وجدوا ومن خلال ما بقي من أثر لمدن وحواضر قديمة تصف لنا جزءا من تاريخنا العربي القديم وأحداثه المجهولة لنا، ومدينة العقير التاريخية هي إحداها.

ما يهم منطقة العقير أنها جزء من الأحساء، فهي الواحة الزراعية، التي أخرجت التمور للعالم القديم. فالعقير هو ميناؤها القديم والمحطة التجارية لحضارات سادت وبادت في الهلال الخصيب. فما بالعقير هو تتابع حضري وخير شاهد على تطور وسائل التجارة القديمة عند العرب الأوائل، وعلى منشئ تلك المدن البابلية من حضارة سومر. وهناك إشارات من خلال ما عثر عليه في العراق من مكتشفات، أن الأحساء صدرت التمور إليها ومنذ 2500 سنة قبل الميلاد مما فيه من دلالة عميقة على تطور المنطقة الحضري والزراعي في تلك الفترة الزمنية، ومن اتساع ثقافتها وعلومها. كما جاء ذكر لسكان المنطقة في زمن الأشوريين أثناء حكم أعظم حاكم لها وهو «سرجون» سنة 700 قبل الميلاد، ومما ذكر عن المنطقة في الكتابات المسمارية أن بها عددا من الممالك، مما يعنى أنه كان بها أنظمة إدارية متقدمة ومراكز حضرية متعددة.

وقد عرف ساحل المنطقة اليونان والرومان في العهود، التي تلتها ومن كون أهمية مينائها، الذي وصف باسم «قيرا» في التجارة القديمة، فهو محطة عبور السلع الآسيوية القادمة من الهند وإلى حوض البحر المتوسط. وقد وصف مؤرخو تلك الفترة بأنها كلدانية الطابع، ولها تواصل تجاري مع بابل رغم أنها أقدم من ذلك مما عثر عليه الباحثون من أدلة. وربما إن كان ذاك بسبب اتساع تجارتها كمركز ومحطة تجارية مما شكل من عامل استقطاب بشري للعديد من الأطياف والأجناس، لا سيما من أنماط بناء وهو شيء طبيعي. وأصبحت «قيرا»، التي عرفت تحت اسم «الجرهاء» للمؤرخين العرب المتأخرين، كونها أهم مركز بالعالم القديم للبضائع القادمة من اليمن وأفريقيا والهند لتتم إعادة تصديرها إلى بابل. وقد توسعت تجارة تلك المدينة كثيرا، فقد أشار أحد مؤرخي القرن الثاني قبل الميلاد أن ثراء تلك المدينة ضاهى ثراء السبئيين في اليمن، وأن تجارتها تصل إلى حائل وتيماء. أي أن البضائع منها لم تتوقف عند بابل كمحطة بحرية، بل توسعت برا وإلى شمال الجزيرة ومنها إلى البحر الأبيض المتوسط.

وقد تتابع ومنذ ذاك التاريخ القديم حكم العقير غزاة طامعون وخلفاء إسلاميون وزعماء محليون، كما كانت مسرحا للدولة العثمانية مما عرض المدينة القديمة للاندثار. إلا أن ذاك التتابع الأممي من حضارات العالم القديم عليها، التي تركت تحت الرمال أثرها يجعلها من أكثر النواحي الساحلية إثارة فما مثلها يضاهيها شيء في العالم أجمع. كما أيضا أهلها لتكون مقطب الباحثين ومنذ القرن الثامن عشر من كونها موقع تلك المدينة «قيرا» ليجمعوا لنا من أدلة تاريخية من واقع الكتب القديمة، وليطابقوا ما وجدوه على ما شاهدوه وعثروا عليه من مكتشفات.

منطقة العقير ومنذ العهود المتأخرة ذهب وميضها بفعل تطور المراكب الحديثة والموانئ. وها نحن اليوم نأتي بذكر تاريخها لنشهد العالم من الشرق والغرب أننا عرب الجزيرة ومنذ الأزد في منطقة العقير من كنا وراء أول ميناء ومركز لوجيستي في العالم القديم.

@SaudAlgosaibi