عبدالعزيز المحبوب

في عام 1990م حصلت شركة والاس الأمريكية، التي كانت تعمل في توزيع الأنابيب والصمامات على جائزة بالدريج للجودة Malcolm Baldridge، وذلك بعد أن أمضت زمناً في العمل على تطبيق إستراتيجية ونظام شامل لتحسين الجودة في الشركة. لم يكن الفوز أمراً عادياً، فهذه الجائزة هي الجائزة الوطنية في أمريكا، بل وما زاد وقع النجاح وقيمته أنه سُّجل في تاريخ تلك الجائزة كأول شركة صغيرة تحصل عليها. ولكن، لم تدم فرحة النجاح ونشوته طويلاً، ففي مطلع عام 1992م أعلنت الشركة إفلاسها، ثم غادرت بعدة بأشهر من السوق. فماذا حصل ولماذا خرجت! وما هي دوافع ذلك التحول الدراماتيكي نحو الهاوية من أعلى القمة! وما هي الدروس، التي تركت خلفها للتأمل والتعلم!

نشهد بين فترة وأخرى في ساحة الأعمال والمجتمعات العملية مؤسسات تتبنى مشاريع بين صغرى ووسطى وكبرى للتطوير والتحسين، وتحشد لها كتائب الفرق، وتخصص لها الميزانيات، وتبذل فيها من الجهد والوقت الشيء الكثير، وتتحدث عنها في الاجتماعات واللقاءات والقنوات، وتصنع لها اللافتات واللوحات والإعلانات. فمنها مَنْ يسعى للحصول على إحدى شهادات الجودة الدولية، وأخرى تجاهد لنيل الاعتمادات التخصصية، وثالثة تعمل بلا هوادة لشرف الفوز بجائزة من جوائز التميز المحلية أو العالمية، ولا ضير في ذلك كله، فهذه مساعٍ محمودة ومشروعة. ولكن، وبعد الاحتفال بالنجاح وتحقيق الهدف، نجد البعض منها شيئاً فشيئاً ينطفئ نورها، ويذهب وهجها، وتعود أدراجها إلى المربع الأول، حيث ما كانت، فلماذا يحدث ذلك بعد أن بذلت ما بذلت، وأنفقت ما أنفقت، وأرهقت مَنْ أرهقت!!

دعونا نغوص عميقاً للوصول إلى بواعث هذا التحول في الأداء المؤسسي بعد ذلك الإنجاز النوعي، ولعلي أقف أولاً مع المرتكز والمنطلق، وهو سلامة الهدف وصدق النوايا، إذ نجد بعض المؤسسات تسلك طريق الجودة لأغراض تسويقية بحتة، وبعد صدور شهادتها تنتهي الرحلة، فتضع شعار الجودة على منتجاتها وإعلاناتها حتى تتمكن من زيادة الأرباح ورفع الحصة السوقية، وقاعدتهم في ذلك «خذ الأيزو واعمل اللي عايزو». وأخرى تسعى فقط لرفع مكانتها الاجتماعية، وتحسين سمعتها المؤسسية، بل وتزداد هشاشة المستقبل وتلوح علامات الفشل عندما يتوارى خلف ذلك أهداف شخصية، ومكاسب ذاتية يسعى لها بعض القادة في المنشأة، كالحصول على المواقع الفضلى والمناصب العليا. وعلى ضفاف آخر هناك مؤسسات أقبلت على نظم الجودة واعتماداتها «كردة فعل» نتيجة مشكلة أو كارثة حلت بها باعتبار الجودة منقذاً سريعاً، وبعد حل المشكلة ينتهي كل شيء. ومن الأسباب الرئيسة، التي تدفع أيضاً إلى مثل هذه المراحل المظلمة من عمر المؤسسات، هو تغير القيادات وتبدل القناعات لديها وترتيب الأولويات، فيأتي مَنْ يرى أن الجودة والتميز مجرد ترف إداري، وهدر مالي لا حاجة له، فيرمي بجميع تلك المكتسبات، التي جاهد فريق العمل لإنجازها عرض الحائط. وذلك يقودنا إلى سبب آخر منعقد به، وهو ضعف مأسسة العمل في المنشأة، الذي جعلها تربط مصيرها بالأفراد ومرئياتهم الشخصية، وليس عبر السياسات المعتمدة المؤسسية، التي تفرض عادةً على كل وافد جديد الانخراط فيها.

أختم بحديثي المستمر والمتجدد عن رحلة الطموح الوطني وأقول، إن طريق المجد التنموي، والسبق في المضمار العالمي لا يقبل أن تكون الجودة والتميز في مؤسساتنا «سحابة صيف»، تمر عابرةً وتزول سريعاً، بل يجب أن يتغلغل هذا الإيمان في سياساتها وخططها وحمضها النووي، وأن تقف صامدةً أمام تحدي الاستدامة، فكما أن تَبَّني التحسينات وتحقيق الإنجازات أمراً مهماً، يبقى المحك الأهم هو الثبات على ذلك النهج والقناعات، في زمن التغيير المستمر والمتغيرات.

@azizmahb