أحمد الحسين

الدنيا في باطنها رغائب وآفات، ولها معانٍ وتأملات. والدنيا هي اسم لهذه الحياة لبُعد الآخرة عنها. والدنيا نقيض الآخرة، وفي نُسك الحج إذا قيل الجمرة الدنيا أي القريبة إلى منى. وكذلك السماء الدنيا لقربها من ساكني الأرض، ودرجة السلم الدنيا أي الأولى. ومن هذا يأتي معنى الدنيا لدنوها ولأنها دنت والآخرة تأخرت.

الدنيا

دار استخلاف وتعمير وتشمير للعيش والسلام وحفظ الأرواح والأبدان وتآخي بني الإنسان. وفيها إيمان وقيم وتمني حسنات، وهذا أوصى به الرحمن بالمتلو من القرآن؛ اللهم آتنا في الدنيا حسنة.

وهنالك دنيا

تاهت فيها قيم وأخلاق وبروز ظلم وفساد، وتسلط ونفوذ وكراهية وأحقاد.

لذا الدنيا

يختلط فيها الخير والشر ورغائب ومكاره، وتدافع حق وباطل. والبشر منهم مَنْ يريد الدنيا ولا يريد الآخرة. وآخرون يريدون الدنيا والآخرة.

والمفلحون بالدنيا هم مَنْ وصفهم القرآن؛ (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً

وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

الإنسان في الدنيا

رمزية حكايته كحال مَنْ تدلّى ببئر وهو معلق بغصنين على فوهة تلك البئر، أي في سمائه. ورجلاه وطئت على شيء من طيِّ البئر، وهو يرقب بنظره متعلقاً وجلاً فإذا حياتٌ أربعٌ في ثقوب طيّ البئر كُلهن أخرجن رؤوسهن من أحجارهنَّ. وفي ظل هذا المشهد المرعب ينظر ذلك الإنسان تحته، فإذا في قعر البئر تنينٌ فاتحٌ فاهُ منتظرٌ له أن يقع فيأخذهُ.

تمالك هذا الإنسان المُعلق

فزع وهلع يتعدى الوصف، ولاكتمال صورة الحدث حين يرفع هذا المفزوع بصره إلى الغصنين ويكرر نظره في أصل تثبيتهما أي مكان ربط الغصنين، فيرى أنهما مربوطتان بحبل، وهنالك جرذان لونهما أسود وأبيض في كل طرف لهذين الغصنين، يقرضان تلك الحبال. هكذا ارتمت تراجيديا حزينة لهذا الإنسان وهو مُعلق.

عند ذاك

ابصر خلية فيها عسل قريبة لمتناول يده، فذاق العسل فطاب له وشغلتهُ حلاوته، بل التهى في غمرة لذة طعم العسل فخف الهلع عنده، وتناسى برهة عن كيفية الخلاص

رغم أن الهول يأخذ اللب؛ لأن رجليه عند الحيات الأربع، وهو لا يدري متى يُلدغ من الحيات، وكذلك لا يعرف متى يقطع أحد الجرذين حبل الغصن، الذي تعلق به من أن يقع، ولا يدرك أيضا متى يسقط في قعر البئر، الذي فيه التنين.

هذه المجاهيل

التي هو فيها لم تعط ذلك الإنسان الفرصة، بل تم ما هو متوقع فُجَأة فانقطع الغصنان فوقع في فم التنين فهلك.

هذه حكاية

فيها مجاز وتأمل، ذكرها ابن المقفّع المتوفي عام 759م في تحفته الأدبية كتاب «كليلة ودمنة» نقلناها بتصرف.

الرمزية والمجاز

هي وصف الدنيا وتشبيهها ببئر مملوءة بآفات ورغائب، وهذه الدنيا تتناوشها وتحاوطها أمور هي كالتالي:

الحيات الأربع

كناية عن الأمراض ومسبباتها، والعرب يُعرفونها بالدم والبلغم والصفراء والسوداء فمتى هاج أحدها كانت كحمى الأفاعي والسم المميت.

والغصنان

هما الأجل الذي له حين.

والجرذان الأسودِ والأبيض هما الليل والنهار، والتنين المصير والخاتمة، التي لا تُعلم، وكل هذه آفات ومكاره.

والمنحلة

التي فيها العسل هي ما يراه ويتذوقه الإنسان من حلاوة أي ما يطعمه ويشربه ويسمعه ويشمه ويلمسه ويتشغال به في عمره، وكل هذه رغائب دنيوية.

هذه الآفات والرغائب

كُلها في الدنيا ولهذا يُبنى على هذا الفهم أن الدنيا الدانية أحيانا تكون؛ كالماء المالح الذي لا يزدادُ شاربهُ شرباً إلا زاده عطشاً.

وكالعظم

الذي يِصِيبهُ الكلبُ فيجدُ فيه ريح لحم، فلا يزالُ يطلبُ ذلك اللحم حتى يُدْمى فاه ولا ينالُ شيئاً مما طلب.

وكالحدأةِ

التي تظُفَرُ بالبَضْعَةِ (قطعة) من اللحم، فيجتمع عليها الطيرُ فلا تزالُ تدورُ وتدأبُ حتى تُعيي وتعجز، فإذا تعبتْ ألقتْ ما معها.

وكالكوزِ من العسل

الذي في أسفله السمُّ، الذي يُذاقُ منه حلاوةٌ عاجلةٌ وآخِرُهُ موتٌ زُعافٌ.

وكأحلامِ النائم

الذي يفرحُ بها الإنسان في نومِهِ، ثم يذهبُ بغتةً ويرجعُ الظلامُ.

وكدودةِ القزُ

التي تنسجُ نهاراً وليلاً، وهلكت وسط نسيجهَا؛ لأنها كلما زادتْ منه نسجَاً، زادَ استحكاماً ومنعًاً لها من الخروج.

ويبقى خلود الدعاء القرآني

يكافئ ذلك الإنسان الموفق، الذي يرتل؛ (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً

وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

@alhussainahmed0