د. فاطمة مصطفى رضا

تفتح (لو) أبواب الاحتمالات، التي ترافقنا في مجالات مختلفة وتدفع بنا إلى تجربة جديدة، وقد تدفع بنا للتفكير في نتائج خيارات الماضي أو قد تدفع مخيلتنا لتبحر بنا إلى عالم وهمي بلا حدود، لنعيش تجارب لا تمت إلى الواقع بصلة. والحقيقة أن التفكير في الاحتمالات منهج علمي ويفتح للعقل آفاقا جديدة. لكنها سلاح ذو حدين، فوجود احتمال واحد يدفع الإنسان إلى مسار خطي مستقيم وإلى نتيجة واحدة قد لا تكون الأفضل، والتفكير المفرط في الاحتمالات ثم احتمالات الاحتمالات يؤدي بالعقل إلى الحيرة ثم الجمود. وكلما زاد وعي الإنسان زاد تفكيره في الاحتمالات، فيصبح أكثر حذرا في اتخاذ قراراته، مبتعدا عن العفوية والبساطة التي يتميز بها الأطفال في قراراتهم. والواقع أن التفكير في الاحتمالات هو من صميم عمل كل مختص. وأن وضع نتيجة مؤكدة وحتمية غير موثوق به في الغالب، فهناك استثناء في كل شيء، ونتائج قد تخالف المنطق المعهود.

في بدايات القرن العشرين، برزت نظرية الحتمية المعمارية Architectural Determinism، التي تعني أن البيئة المبنية تؤثر حتماً على الساكن، والارتقاء في البيئة المبنية يؤدي حتماً إلى ارتقاء الساكن وبالتالي المجتمع. وفي هذه النظرية، يصل بين الهدف والنتيجة خط مستقيم. لم تضع هذه النظرية (لو) في حسبانها، وعلى هذا الأساس صمم المشروع السكني برويت إيغو Pruitt-Igoe في سانت لويس في الولايات المتحدة في خمسينيات القرن العشرين، بُني برويت إيغو ضمن إطار خطة التنمية لما بعد الحرب. استهدفت الخطة إزالة الأحياء الفقيرة وإعادة التطوير والإسكان العام كحال العديد من المدن بعد الحرب. وكذلك فعل المعماري المصري حسن فتحي في مشروعه قرية القرنة الجديدة، التي بدأ بتنفيذها في 1946م، وصممها للفلاحين، الذين أراد لهم أن يعيشوا الحياة التي تمناها لهم كما ذكر في كتابه عمارة الفقراء.

ولكن ما حدث كان مخالفا لما كان متوقعا، فقد خيب كلا المشروعين الأهداف السامية التي رسمها مصمما المشروعين، وكانت نهاية المشروع الأول بأن فُجر ليختفي عن الوجود في 1972م، ليُقضَي لا على المبنى الخرساني، بل على الفكر الحتمي الذي بُني على أساسه. وكانت نهاية المشروع الثاني بأن هجره السكان وتحول إلى تحفة معمارية في لائحة اليونسكو للتراث العالمي. انحنى كل من المشروعين عن مسار الخط المستقيم، الذي رُسم لهما وأثبتت النظرية عدم جدواها، وظهرت نظريات أخرى كنظرية الاحتمالات Possibility theory. لو لم يرتبط المشروعين بالنتيجة المثالية التي رُسمت لهما، لما كان مصير كل منهما ما كان، ولو وضعت لكل منهما احتمالات أخرى لكان من الممكن تلافي نتائج سلبية كثيرة. ولكنها تجارب عملية لنظريات قد تعيدها قسوة الواقع إلى الورق ثانية، وقد تنطلق في الواقع لتتجسد وتتطور فيه، وتكون القواعد والأسس التي يُبنى عليها.

يصعب الحكم المسبق على التجارب المعمارية فهي ترتبط بالإنسان المعقد التركيب والقابل للتغير والتطور، وما قد يجذبه ويحتاجه في مرحلة معينة، قد ينفر منه ويستغني عنه في مرحلة أخرى، ومن هنا تأتي (لو) لتضع احتمالات النتائج لأي عمل معماري. ومنها يدخل حساب الزمن والتغيرات الفكرية والثقافية، فالمصمم يبدأ بأفكار يترجمها إلى خطوط ومواد، أفكار وأهداف وخطط أحيانا كثيرة لا نعرفها ولكننا نرى تأثيرها. كالحجر الذي يُرمى في بحيرة ساكنة، فإنك ترى الموجات الدائرية التي تنطلق من نقطة سقوط الحجر وإن لم تشهد لحظة السقوط. لهذا يجب على المعماريين وأصحاب المشاريع دراسة احتمالات النتائج الممكنة ووضع البدائل إن لزم الأمر.

انستجرام: Dr_fatima_Alreda