رائد البغلي

لا كاتب يكتب دون هدف، فكلٌ مأخوذ بأشياء ومهجوس بأخرى، وأكثر ما يدفع الكاتب للكتابة غالبًا الهزيمة، لأنها توقد في داخله الرغبة الجارفة في إثبات الذات.

أحيانًا يكتب الكاتب ليقبض على لحظة الصدق الأخيرة ويوثِّقها كما هي، قبل أن تتعرَّض للتشويه والتبديل، وأحيانًا يكتب مُعبِّرًا بهويته الصغيرة عن هويته الكبيرة، لأن الهويات الصغيرة تنصهر في الهويات الكبيرة، فتمتزج بها وتصبح جزءًا منها.

من أصعب الأشياء التي تَعبُر بالكاتب التجاهل، لأنه يكتب للقارئ، ويتمنى أن تصل كتاباته لأكبر شريحة ممكنة، وأكثر ما يُؤرِّقه هو أن يَنشر عملًا مكتوبًا ولا يجد له أيّ صدىً، فالكتابة بالنسبة للهائمين في أفلاكها هي الباب الخلفي المُشرف على الكون، والذي ينطلقون من خلاله إلى فضاءات شاسعة وآفاق رحبة، ويُقدّمون أنفسهم من خلالها بالصورة التي تليق بهم، وبالهيئة التي قد لا يعرفها العالم عنهم.

ومن هذا المُنطلَق، يوصي الأديب الكبير نجيب محفوظ -الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1988 م- في جلساته الخاصة على المقاهي الشعبية الأدباء الذين يصغرونه سنًا قائلًا: «حاولوا أن توسعوا أرضية الرواية العربية»، لأنه كان متنبئًا أن يحذوَ حذوه الكثير من الروائيين الشباب ويقلَّدوا نهجه، وبالفعل، هذا ما حدث، فقد كان يشتغل في أعماله الأدبية على القاهرة القديمة بأحيائها وأزقّتها المزدحمة بالفتوَّات والدراويش، وتضجّ بجَلَبَة المضاربات حتى الصباح كما صوَّرها، لكن واقعًا محفوظ اختلق لنفسه قاهرةً خاصةً به، أذعنتْ لخياله الدرامي الفسيح وطوَّعها حسب رؤيته الروائية النافذة، فأضحتْ القاهرة في أعماله الأدبية كما يراها هو كروائي وأديب، وليس كما هي عليه في أرض الواقع، لكن رغم انغماس أعماله في خياله الرحب، ورغم الجدل الذي كان يحيطها والذي أدّى لمحاولة اغتياله، إلا أن كل ذلك لم يكن لينفي أنها كانت ترتكز على مرتكزات واقعية جعلتها تلامس أحاسيس الشعوب وجعلتْ أفئدتهم تهفو إليها، وكان منع بعض منها يزيدها وهجًا وطلبًا وانتشارًا، لذلك كانت «علامةً فارقةً» في تاريخ الأدب العربي قاطبةً، وبقيت خالدة في المكتبة العربية، وراسخة في وجدان القارئ العربي، ورغم رحيله لم تسقط من الذاكرة الأدبية، لذلك كان هو الكاتب الأوفر حظًا وأعماله الأكثر تواجدًا في السينما والتلفزيون وكذلك على أرفف المكتبات.

«الأدب الجيَّد: جغرافيا جيدة»، جملة غائرة ومدهشة اقتطفتُها من لقاءٍ مُتلفَز للروائي المصري الكبير د. محمد المنسي قنديل، لأن للمكان الدراما الخاصة به التي تزوِّد الكاتب بتفاصيل لا يستطيع أن يستمدّها من خياله، فقد تكون هناك أفكارٌ تؤثِّثُ ذاكرته وصورٌ تفترش روحه سلفًا، لكن عندما يزور المكان قد تتبدّل تلك الأفكار والصور ويسير العمل في مسار آخر مختلف تمامًا، لأن المكان يفرض حضوره على الكاتب وليس العكس.

ومن أهم الأسباب التي تدفع بالكاتب لزيارة المكان الذي ينوي الكتابة عنه هو دراسة ملامحه واكتشاف طبائعه، والتعرّف على الأحداث الواقعة على الأرض، حتى يكون محيطًا بأدّق تفاصيله، وبالتالي، يكون مُمسكًا بزمام عمله الروائي بشكلٍ وثيق، وهذا يحيلنا إلى دلالة غاية في الأهمية، وهي أن العمل الأدبي له صفةٌ مكتبيةٌ، كما أن له صفةٌ ميدانيةٌ أيضًا لا تقلّ أهميَّة.

من جهة أخرى، هناك جدلية شائكة يتبناها الكثير من الناس تقع تحت عنوان «التاريخ شيء لم يحدث، والمؤلف رجل لم يكن هناك»، فهم بذلك ينكرون كل الوقائع التاريخية، ويردُّ المنسي قنديل -المسكون بالتاريخ- على هؤلاء: نحن أمام وقائع مثبتة، نجد أثرها في الحجر والنقوشات والأحافير وفي المقابر القديمة وجدرانها والآثار والتحف والشوارع، فلا بد أن نتعامل معها بدقَّة ولا نقلب التاريخ رأسًا على عقب، بل نحلله.

أخيرًا، مهمة المؤرِّخ تختلف تمامًا عن مهمة الروائي الذي يشتغل في حقل التاريخ، فالأول يبحث عن الوثيقة التي تثبت الأحداث والأثر، أما الثاني فيمتلك حرية التحليق بالخيال، وينطلق من قاعدة واقعية موجودة، ويبني عليها الكثير من التخيّلات التاريخية الروائية التي لا تشذُّ عن الواقع، ولا تلوي عنق الحقائق.

@raedaalbaghli