سعود القصيبي

لا أحد يختلف على عمق واحة الأحساء وبعدها التاريخي ومنذ خمسة آلاف عام. ولا أحد يختلف على براعة يد الصانع الأحسائي والتي أخرجت لنا إرثا إنسانيا عالميا نفخر به من علوم ومن شواهد منتجات مختلفة، إلا أن الكثير من الحرف هي نتيجة حاجة المجتمع لها لتأتي يد الإنسان المبدع وتضيف وتبتكر لتخرج الجميل. فتتشكل من أسباب تلك الأعمال والطلب عليها أسس المعيشة الكريمة والفرص الوظيفية وهكذا تسري الحياة والزخارف الأحسائية الجصية هي أحدها، ففي تلك الزخارف الجميلة نماذج من الإبداع والخصوصية للواحة تجعل من تلك المشغولات بالفعل إرثا عالميا يستحق الاهتمام والتسجيل بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو».

وفي وصفها فإن الأعمال الجصية الأحسائية حملت من تلك الواحة خصائصها واستوحت من الطبيعة والنباتات نماذجها ومن الفنون الإسلامية رائحتها وعبقها حتى غدت تراثا وطنيا أحسائيا خالصا زين الماضي مواهبه والحاضر إبداعه ولما هو أجمل. كما أن تلك النقوش الجصية هي ضمن الفنون الإنسانية والتي ارتبطت بالأرض وموادها وفي تحوير عناصر الطبيعة المحلية بأشكال زخرفية جذابة كما في استخدام السعف وورق التين والنخيل من الأمثلة. كما شكل التكرار والتوالد والتماثل وخاصية شغل الفراغ خواصه وهي من أساليب فن الزخرفة الإسلامية. وقد عنى باحثون فأخذوا على عاتقهم توثيق هذا التراث فكانوا روادا في المجال كما عنت جمعيات أهلية وكذلك مؤسسات الدولة في المجهود التوثيقي لهذا النمط من الفن الثقافي الأحسائي.

إلا أننا مقبلون على فناء لتلك الفنون إن لم نحافظ عليها بأسباب تغير نمط البناء وأساليبه وتوفر حرفييه وعمالته. ولا يستطيع المهندس والعامل الوافد معرفة ما لدى الأحساء من فنون عمارة إلا إن حافظنا عليها بأنفسنا ودرسناها وصناعتها وحرفها للأجيال وطورنا نمطها. كما بالإضافة إلى أسباب التوجه للاندثار هو أن البناء الطيني الذي شمل أعمال الجص قد توقف العمل به ومنذ سنوات طوال فإن بقي أحد من حرفيي الماضي يكاد ذلك يكون معجزة. فنحن اليوم على مفترق طرق مهدد فيه تراثنا بالضياع بأسباب التقادم ولا يتوقف الموضوع هنا بل يبدأ.

إن النقلة الحقيقية للمجهود المؤسسي تأتي بعد مرحلة التوثيق لزخارف الأحساء الجصية وهي مرحلة التأصيل والتجسيد. والأمر المأمول أن ما خطط ووضع من برامج لها بإذن الله سوف يؤدي إلى نقلة نوعية بالمجهود التراثي الخاص بالواحة. فنحن مقبلون ضمن رؤية عام 2030 على مرحلة جديدة من السياحة كمكون رئيس للاقتصاد كما حضت الرؤية أيضا على اهتمام خاص بالصناعات والمؤسسات الصغيرة وعمل للمرأة وكذلك على عنصر الابتكار الذي يعد جزءا لا يتجزأ من نهضة ورقي أي أمة. ومن الابتكار تأتي عدة نماذج ناجحة وقد شاهدنا ما يمكن عمله من تسجيل فن «القط العسيري» بمنظمة «اليونسكو» كفن سعودي تراثي مختص بالزخرفة إلى قائمة التراث العالمي غير المادي. وكذلك من توظيف لتلك الرسومات الجميلة كجزء من الهوية التراثية في اليوم الوطني السعودي الأخير.

نحن متفائلون بما هو قادم بأسباب تلك الجهود القائمة على بناء المستقبل. كما أن المجال واسع لإعادة توظيف تلك اللوحات الإبداعية من الجص وهناك نماذج موفقة في تونس والمغرب من استمرارية الزخارف الإسلامية في العمارة الحديثة ومن توظيف جيد لها. كما يمكن إدخال عناصر وأنماط جديدة بمفهوم ابتكاري عصري وأن نتوسع فيها. ومن الأفكار أن تكون تلك النماذج الجصية كما في تذكارات تقتنى من السياح أو جاهزة تركب وحتى ملونة تستخدم في المنازل والمطاعم كلوحات جمالية أو حتى مشغولات ذهبية وحلي وكذلك بالإضافة لتوظيفها في الأزياء وفنونها. ولنطلق عنان خيالنا مما يمكن عمله لتوظيف زخارف الأحساء الجصية فإبداع السعودي لا يتوقف وهممه لا تنحصر ولا تقتصر فإن سئلنا ذات يوم نذكر أننا حافظنا على إرثنا الإنساني وبنينا على ما بنى الأجداد بل وتفوقنا.

@SaudAlgosaibi