دلال عبدالله يوسف تكتب:

تُرى يا أصدقائي إلى أي حد أثرت التكنولوجيا العنيدة وفوضى العولمة على هيبة الكيان الثقافي كالقراءة والكتابة والطقوس، التي يمارسها البعض أثناء محاولته للانخراط في أجواء الأنتليجنسيا (النخبة المثقفة) ما بين التقليد والتباهي المزيّف والحقيقة المكتسبة لصفة المثقف أو المفكر وإلى أي مدى كان تأثيرها سلبيا وقاسيا بالأخص على سياسة إنهاء وجود الكتاب الورقي بالكيندال والـPDF وغيرهما من الأساليب الإلكترونية الضّارة بالصحة الفكرية والطاقة المعرفية للإنسان وزعزعة هيبة المكتبات العامة والمتاجر المكتبية ودور النشر، التي لا نتمنى أن تخلو رفوفها يوما ما من جمالية الكتب وعبق رائحتها.

رغم نشاطي الحياتي والثقافي كفراشة لا تهدأ في عالم التواصل الاجتماعي واهتمامي بالعالم الرقمي والعصر الإلكتروني أصبحت أتساءل مراراً هل أدب المراسلات أصبح مهددا بالإنقراض وبات الأغلب لا يكترث بهذه الثورة الفنية المعتقة كما كانوا يفعلون الأدباء والشعراء في القرون الماضية قبل أن تقحمنا السوشيال ميديا ومحاولاتها الناجحة في تغيّر أهواء وعادات صُنّاع الثقافة في زمننا الحالي، كالعادة البعض يلوم النقاد على غيابهم ونومهم في سبات عميق غيّبهم عن إصلاح الثقوب والنواقص المشوّهة للصورة الثقافية الأدبية التاريخية، التي كنا نظن أنها لن تكتمل إلا بوجود انقاداتهم اللاذعة، التي أصبحت مشخصنة أكثر مما أن تكون إصلاحية للأسف، نعود إلى النقطة المهمة ألا وهي شجاعة بعض دور النشر رغماً عن سيطرة العولمة وهيمنتها على الكرة الأرضية قامت بإثراء السوق الفكري بالمؤلفات والكتب الحديثة والنادرة وترفض أن تكون تجارية بحتة تمتص الجيوب دون أن تنفع العقول شاكرين لهم جهودهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والاهتمام بالبحث والنشر لأدب المراسلات على وجه الخصوص، حيث إنه من الثروات الأدبية التي أصبحت مُهملة ومهددة بالإنقراض لذلك نوجه الشكر الجزيل لحرصهم على إعداد فريق كامل ومتكامل من المترجمين المحترفين لتقديم المحتوى بكل دقة وإتقان من أجل التنويع الأدبي والثقافي في عالم المتذوقين للأدب بشغف.

مهم جداً أن يهتم الناشر بالكنوز المدفونة ولا يتكئ فقط على مجارات السوق الأدبي، حيث إن الثقافة ليست لها مواسم أو موضة تمر مرور الكرام، وكل ما يهبّ سريعاً يذهب مع الريح كالرمال المتطايرة، وهناك ما يبقى مهيباً كالجبال رغماً عن الظروف وعوامل التعرية، لا سيّما الكاتب المؤثر في عصرنا هذا يجب أن يعزز طموحه نحو ترجمة إصداراته إلى عدة لغات أخرى ليكون صوته مسموعاً في مختلف القارات والأروقة بدلاً من تحويل مؤلفاته إلى نسخة إلكترونية مهدورة، وأن يهتم أيضاً بالبحث والتنويع الذي سيساهم في إحداث طفرة دائمة لمحتواه واسمه لتكون له بصمة تاريخية، خاصة ومُخلدة عبر الأجيال تقضي على التلوث الفكري.

رغم تشويش التكنولوجيا لعقولنا وعاطفتنا وتأثيرها علينا إلا وأن تعلقي بالكتب والقراءة يدفعني أن أتمسك بالكتاب الورقي وأرفض أن أقرأ كتاباً بنسخته الإلكترونية وككاتبة أيضاً حتى لا يفقد القارئ شغفه باقتناء مؤلفاتي لا يستهويني في الوقت الحالي أن أجرّد إصداراتي من إطارها الممتع والتوثيقي وأحوّلها إلى نسخة إلكترونية جامدة لا أثر ملموس لها، رغم أن الكتاب الورقي يكلّف الكثير من المال لطباعته حتى يظهر بصورة تليق بالمحتوى واسم الكاتب وأمور كثيرة أخرى بتفاصيلها المهمة ولكن يبقى الهدف ليس بمادي بقدر ما هو معنوي يشعرني بالفخر أن تحتضن المكتبات حول العالم سواء العامة أو الشخصية تلك الكتب الورقية بجمالها وأغلفتها ومحتواها الثريّ، الذي سيحافظ على هيبته ولو بعد مرور مائة عام نستشق رائحة الورق المصفرّ المعتق.

@DalalAlMasha3er