سعود القصيبي

تحدثت في مقالات سابقة عن تاريخ نشأة العملات، وإلى القرن الخامس عشر وكيف كان توجه الدول الأوروبية بعد الحروب الصليبية للثراء عن طريق الاكتشافات البحرية من مناطق جديدة غير معروفة لهم. وكيف استغل الدين النصراني كدافع عقيدي لمشروع التوسع الأوروبي بداية مع الحروب الصليبية، وانتهاء بالإبحار لمناطق جغرافية متحلية بآخر ابتكارات الأسلحة والمراكب في سبيل الحصول على تلك المعادن أو تجاره تقود لها.

ففي مطلع القرن السادس عشر الميلادي، رأى العالم ظهور قوى جديدة وممالك في شبه الجزيرة الإيبيرية تحمل ذات الشعارات من التطرف الديني الصليبي وأدّت إلى زوال الممالك الأموية الواحدة تلو الأخرى. وبالطبع فقد اغتنت هذه بسقوط الممالك العربية ومكنتها بضم مكتسباتها وعلومها، بالإضافة إلى الأموال التي سلبتها. ولم يتبق مصدر آخر بعد ذاك لاستمرار إنعاش هذه الممالك الاقتصادي إلا عن طريق التجارة مع نظرائهم الأوروبيين.

جاء السبق والكشف حليف البرتغاليين، فبينما ركز الإسبان «كاستيل» على الممالك العربية وما تبقى منها في إمارة الأندلس، كانت أعين البرتغاليين موجهة لإيجاد طريق بديل للوصول إلى الهند للمتاجرة بالفلفل الأسود بعد أن أوقفت الدولة العثمانية تجارة التوابل إلى أوروبا عبر أراضيها. فقد تضاعف سعره بشكل كبير الأمر الذي دعا البرتغاليين للمخاطرة والاستثمار البحري في مراكب لإيجاد مصادر له، خاصة بعد عدم تمكنهم من البقاء في مدينة سبتة بالمغرب العربي بعد احتلال لها استمرارا لذات النهج من تلك الحروب التوسعية على حساب التواجد الأموي العربي.

لم تكن القارة الأفريقية وقتها اكتشفت معالمها من قبل الأوروبيين، إلا أنه بنفس الوقت كان الطريق البحري للتوابل الهندية مسيطرا عليه من قبل البحارة والتجار العرب، وكانت منافذه البرية بالمقابل بيد العثمانيين فيما يعرف الآن بتركيا. كانت السفن العربية وقتها بمختلف فصائلها تجوب كل السواحل الهندية وشرق أفريقيا. ولإيضاح الصورة الزمنية في نهاية القرن التاسع الهجري كان الجبور بالأحساء يسطرون على ساحل الخليج العربي الشرقي من كاظمة في الكويت وإلى عمان. وكان لحكام جزيرة هرمز العرب، وكذلك من جزيرة قيس صفوه في التحكم بطرق التجارة البحرية الخليجية. كما كانت هناك ممالك عربية أخرى مسيطرة على الساحل الغربي للخليج العربي فيما هو الآن بيد إيران. وكانت مصر وفلسطين ولبنان والشام والحجاز حينها بيد المماليك، بينما العراق بيد مَنْ تبقى من سلاجقة المغول. أما إيران فقد توحدت تحت لواء أول زعيم لها صفوي يدين بنهج الاثنا عشرية «أحمد شاه» ضاما أجزاء متفرقة إلى دولته.

بداية اكتشف البرتغاليون سواحل أفريقيا الغربية تجاوزا المغرب وإلى مكامن الذهب في الصحراء، ومن ثم تمكن بحارتهم من الوصول إلى رأس الرجاء الصالح. وفي سعي البرتغال للوصول إلى الهند، أرسل ملك البرتغال «مانويل الثاني» بعثة بحرية متكاملة من قوة عسكرية وجغرافيين سنة 1497م الموافق عام 902 هجري بقيادة القبطان «فاسكو دا جاما» الشهير، الذي استطاع الوصول إلى الهند عبر اكتشاف الطريق البحري بعد تجاوزه رأس الرجاء الصالح بالتفاف قام به باستخدام تيارات المحيط الأطلسي. وفي رحلته التاريخية إلى سواحل الشرق الأفريقي تمكن بالاستعانة بمرشد من غجرات ببلاد الهند ليبين له الطريق من «ملندي» بعد توقفه في «ممباسا» وإلى مدينة كالكوتا الهندية بالتحديد. وبعد محاولات مع سلطانها المسلم لإقناعه برسو مراكبه، استخدم «فاسكو دا جاما» بالنهاية المدافع، التي كانت تمثل أحدث الأسلحة وأفتكها مع القوة مقايضا في النهاية ما لديه وكان مقبولا للجهات الهندية من بضائع بشيء يسير من الفلفل الأسود. وما أن عاد إلى البرتغال رغم خسارة بعض السفن وعدد كثير من الملاحين، إلا أن بيعت تلك التوابل بعشرة أضعاف تكلفة الحملة معلنة قيام عصر جديد بحري جاء بقوة المدافع والتبشير كأيدلوجية سعيا وراء الثراء.

ربما ذات يوم يزيد اهتمامنا التاريخي بالحقبة، التي تلت والتي وصفت بدموية أحداثها. وربما ذات يوم نرى تنقيبات أثرية بمنطقتنا الشرقية وبما اكتشف من دلائل عن تواجد برتغالي في مدن الساحل الشرقي من الخبر للدمام فالقطيف فالجبيل أو على الأقل للحفاظ على ما تبقى منها. وربما نأتي لندرك أهمية تلك الفترة من سيطرة عرب الجزيرة على الطرق البحرية للتوابل... ربما.

@SaudAlgosaibi